أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله سبحانه حث على طلب العلم حيث أن أهل العلم من أفضل الناس ورغب فيه وجعل العالم أفضل ممن هو دونه في العلم نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ، يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ، وجعل سبحانه العلم ضد الجهل فكل من ليس بعالم فهو جاهل وكل إنسان منا عالم بما علم جاهل بما جهل، ومنذ القدم عاب أهل الرأي والحكمة، الجهل، وحسب الجهل خسة وضعة. وبين سبحانه أن أعداء الدين وأعداء الرسل وأعداء المصلحين لا يرضى أحد منهم أن ينسب إليه ولو كان فيه.
أهل الجهل هم من الذين لم يرد الله بهم خيرا فابتعدوا عن العلم والعلماء وكان الجهل صفة لازمة لهم واجتمع فيهم الغي والضلال فكانوا من أظلم الخلق اعتداءا على الله حيث حاربوا دينه وابتعدوا عن شريعته قال تعالى: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ، وبين سبحانه أنه لا يؤتي العلم من كان متجبرا متكبرا عاصيا مبغضا لأوليائه محبا لأعدائه فقال سبحانه: سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ، وكما قال الشافعي:
شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
و أخبرني بـأن العلـم نور
و نور الله لا يؤتـاه عاصي
وبين سبحانه أن سبب تمسك الناس بالباطل، وشراؤهم للهو وإنفاق أموالهم في مساخط الله هو عدم العلم فقال سبحانه: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ، فبعد الناس عن العلم واستحواذ الجهل عليهم سبب للضلال والبعد عن الله والسير في الطرق المنحرفة سواء في الاعتقاد أو السلوك أو التصور أو في الفهم الصحيح لهذا الدين.
ولهذا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة وقد أمر الله سبحانه بالعلم قبل العمل فقال عز شأنه: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل.
فالإنسان بلا علم ليس له قيمة في هذه الحياة فهو غير معدود من الناس إذا عاش، وغير مفقود إذا مات، فبالعلم الراسخ والإيمان المنير تضيء الحياة وكما قيل:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
ويعرف الإنسان منا قيمته، ويعرف من أجل ماذا خلق؟ وإلى أين المصير؟ فالعلم الراسخ هو السبيل إلى المعرفة الصحيحة والثبات على الإيمان والسمو بهذا الدين والتلذذ بحلاوته والاعتزاز به والتمسك بعروته الوثقى، ونحن نشهد في كل زمان أن أهل العلم الذين يتعمقون فيه ويقرؤون ويبحثون ويعلمون يجدون أنفسهم أمام دلائل الإيمان الكونية التي ترفع من إيمانهم ولهذا يثني الله على أهل العلم ممن هو من أهل هذا الوصف فقال عنهم: إنما يخشى الله من عباده العلماء ، فبالعلم تزداد خشية الإنسان لربه قال الإمام أحمد رحمه الله: (كل من كان بالله أعرف كان من الله أخوف).
فالعلم هو النور الذي يبدد ظلام الجهل وهو القوة والعزة والمنعة، بالعلم تزداد العقول هدى ورشدا، وترتقي النفوس فتمتلئ بالثقة والثبات.
ولقد بلغت عناية الله عز وجل بنا لرفع الجهل عنّا أن كان أول ما نزل من الوحي لنبينا أعظم كلمة هبط بها جبريل هي قوله تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق ، وقالها لأصحابه وانطلقت بعد ذلك لتصبح شعارا للمسلمين ليكونوا حملة المشعل، مشعل العلم الهادي وأمر الله عز وجل في أول آية نزلت من القرآن دليل واضح على أهمية العلم في تكوين عقل الإنسان وفي رفعه إلى المكانة السامية وأما النصوص التي وردت في السنة التي تحث على طلب العلم فهي كثيرة جدا وهذه الأدلة الآتية هي كالبرهان الساطع والإثبات القاطع على ذلك منها:
ما رواه الطبراني والبزار بإسناد صحيح قال : ((فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)).
وما رواه الإمام مسلم في صحيحه: ((من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة و ذكرهم الله فيمن عنده)).
وما ورد في الترمذي بسند صحيح:
أنه ذكر لرسول الله رجلان أحدهما عابد، والآخر عالم، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: ((فضّل العالم على العابد، كفضلي على أدناكم)). ثم قال : ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلمي الناس الخير)).
وروى ابن ماجة بإسناد حسن عن النبي أنه قال: ((من علّم علما فله أجر من عمل به، لا ينقص من أجر العامل شيء)).
ويبلغ من فضل العلم أنه يرفع قدر أناس ليس لهم حسب ولا نسب فوق كثير من الأكابر كما ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن أبي الطفيل: أن نافع بن عبد الحارث أمير مكة خرج واستقبل عمر بن الخطاب بعسفان، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، فقال عمر: ومن ابن أبزى فقال رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم قد قال: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)). وكما قال الأول:
والجهل يزري بالفتى في قومه
وعروقه في الناس أي عروق
وكما قيل:
العلم يرفع بيتا لا عماد له
والجهل يهدم بيت العز والشرف
بل قد يصل الأمر بالناس لخدمة العالم والسعي في إنهاء أموره وقضاء حاجاته كما قال الشافعي رحمه الله:
العلم من فضله لمن خدمه
أن يجعل الناس كلهم خدمه
ومما ورد في الحث على طلب العلم وتحصيله ورفع الجهل وتقليله: تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة، والخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، يرفع به أقواما فيجعلهم في الخير، قادة قائمة تقتص آثارهم ويقتدى بفعالهم وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلّتهم ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام وهو إمام العمل والعمل تابعه، ويلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء.
فينبغي ليطالب العلم أن ينوي عند طلبه للعلم رفع الجهل عن نفسه وعن غيره حتى يؤجر على ذلك ويؤتى ثمرة العلم وبعد أن عرفنا فضل العلم علينا أن نعلم أنه ينبغي لطالبه ألا يمل في طلبه، فهذا أحمد وقد رؤي يكتب العلم فقيل له: إلى متى وأنت تحمل المحبرة؟ فقال رحمه الله: (مع المحبرة إلى المقبرة). يعني أنه يكتب ويطلب في العلم حتى الموت. وقد قيل لابن المبارك: إلى متى وأنت تحصل العلم وتكتبه؟ قال: (لعل الكلمة التي تنفعني لم أصل إليها بعد).
وحد العلم الشرعي الواجب معرفته والذي ينبغي صرف الهمة إلى تحصيله والبحث عنه قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (والمراد بالعلم، العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عبادته، ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص) .أ.هـ.
فالعلم الذي رغّب فيه الشارع هو علم الفقه إذ به يتوصل إلى الحلال والحرام وهو أيضا علم الكتاب والسنة إذ بهما يتوصل إلى العلم كله إضافة إلى ذلك أنه علم معاملة العبد لربه.
والمعاملة التي كلّفها العبد على ثلاثة أقسام:
اعتقاد وفعل وترك:
فأما الفعل: فإذا بلغ الصبي سن التمييز فيجب أن يتعلم كلمتي الشهادة وفهم معناها فإذا جاء وقت الصلاة، عُلّم الصلاة والصيام والحج وهكذا يتعلم كل حكم في وقته.
وأما التروك، فهو بحسب ما يتجدد من الأحوال فلا يجب على الأعمى تعلم ما يحرم النظر إليه ولا على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام وهكذا.
وأما الاعتقاد: فيجب عليه معرفة ربه ويجب أن يتعلم التوحيد الصافي.
كتوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات ويكون اعتقاده كعقيدة السلف الصالح، ويجب عليه مجانبة أهل البدع والأهواء، وينبغي أن يتعلم الإيمان بالبعث وبالجنة والنار فهذا هو المراد بطلب العلم الذي هو فرض عين، وأما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب والحساب والصيدلة والهندسة، وغير ذلك، وقد يكون بعض العلم مباحا كالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها ولا طعن فيها بالدين أو العقيدة، وكذلك تواريخ الأخبار.
وقد يكون بعض العلوم محرما كعلم السحر والشعوذة وغير ذلك.
وأما الآثار التي تترتب على من طلب العلم فمن تلك الآثار:
الخشية: وكما قيل: إنما العلم الخشية. فحقيقة العلم النافع وثمرته النهائية هي معرفة الله والعلم به وما يقّرب منه ثم العمل بالعلم فإن أخلص القصد فيه لوجه الله واستعان بالله أعانه وهداه ووفقه وسدده وفهمّه، وألهمه، وحينئذ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به وهي خشية الله. وقد سئل أحمد بن حنبل رحمه الله: هل كان مع معروف الكرخي شيء من العلم؟ فقال: (كان معه رأس العلم، خشية الله تعالى).
ومن الآثار أيضا اكتساب الفضائل بشتى أنواعها من فعل للطاعات وترك للمنكرات والاجتهاد في العمل الصالح كما ورد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: (ما حفظت حديثا عن رسول الله إلا عملت به ولو مرة).
فمن قرأ مثلا سير العلماء العاملين يجد أنهم نتيجة علمهم كانوا يتسابقون في الخيرات وكان الواحد منهم مقدما في جميع أعمال الخير فهذا مثلا أبو عمر المقدسي رحمه الله قال عنه الذهبي: كان قدوة صالحا عابدا قانتا لله، ربانيا، خاشعا مخلصا عديم النظير، كبير القدر، كثيرا الأوراد والذكر، والمروءة والفتوة والصفات الحميدة، قل أن ترى العيون مثله، كان كثيرا التهجد وكان يكثر الصيام ولا يكاد يسمع بجنازة إلا شهدها، ولا مريض إلا عاده، ولا جهاد إلا خرج فيه ويتلو كل ليلة ُسبعا مرتلا في الصلاة وفي النهار سبعا بين الصلاتين وإذا صلى الفجر تلا (يس) و(الواقعة) و(تبارك) ثم يقريء ويعلم الناس إلى ارتفاع النهار، ثم يصلي الضحى، فيطيل ويصلي طويلا بين العشائين، ويصلي صلاة التسبيح كل ليلة جمعة، فقيل: كانت نوافله في كل يوم وليلة اثنتين وسبعين ركعة، وله أذكار طويلة، وله أوراد عند النوم واليقظة وتسابيح، ولا يترك غسل الجمعة وله معرفة بالفقه والعربية والفرائض وكان قاضيا لحوائج الناس، ومن سافر من الناس يتفقد أهاليهم وكان الناس يأتونه في القضايا فيصلح بينهم وكان ذا هيبة ووقع في النفوس وكان ربما تصّدق بالشيء وأهله محتاجون إليه رحمه الله.
هذه الفضائل التي نالها الشيخ أبو عمر المقدسي رحمه الله إنما نالها بالعلم والعمل والجد والمثابرة محتسبا الأجر عند الله تعالى وهذه الفضائل وأعمال الخير أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب. |