أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جلّ وعلا، فتمسّكوا بها وحقّقوها، واهجروا الدنيا وطلّقوها، وتخفّفوا من الذنوب وفارقوها، فإنها سبب كل بلاء وطريق كل شقاء، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
أيها المسلمون، وفي أيام رمضان ـ وما أحلاها من أيام ـ يجتمع الإخوان والأحباب والجيران، ويكتمل عقدهم قُبَيل الغروب في مجلس يغمره الإيمان، فهذا مُهلّل وذاك مكبّر، وهنا داع وهناك مستغفر، لحظات إيمانية ودقائق روحانية، تمثّل الانتصار على النفس وقهر سلطان الهوى والشيطان، وتجسّد الاستسلام للأمر الإلهي والنهي الرباني، وما إن ينطلق صوت المؤذن لصلاة المغرب عاليًا حتى ينطلق القيد ويحلّ ما كان محرّمًا، فما أجمل هذه الصورة في الامتناع عما كان محرمًا، ثم إتيانه حين صار حلالاً، مع أنه ليس بينهما إلا لحظات يسيرة ودقائق معدودة.
إنها ـ والله ـ الصورة التي يجب أن يكون عليها المسلم طول حياته، والشعور الذي يجب أن يحكم جميع تصرفاته، يعبد الله بترك المحظور كما يعبده بفعل المأمور، يمتثل الأوامر ويقف عند النواهي، ويحرص على السنن ويهجر المكروهات، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان:22].
وذلك الاستسلام في الحقيقة ـ أيها المسلمون ـ يعد من أهم أسرار رمضان وأجل حكم الصيام، فالله جل وعلا لم يشرع الصيام على أنه حرمان مؤقت من الأكل والشرب فحسب، ولا ليكون تعذيبًا جسمانيًا بحتًا، أو معركة مبهمة مع أعضاء الجسد، بل شرعه ليكون سبيلاً إلى حرمان دائم للنفس من الشهوات المُسْتَعِرَة، ومنعًا لها عن النزوات المنكرة، شرعه لترويضها على الصبر وتحمّل المشاقّ، ولتحلّ الجد محل الهزل، ولتجعل محل البطالة العمل، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]. والصوم نصف الصبر، كما جاء في الأثر.
ولكن الناس ما يكادون ينتهون من طعام الإفطار ويصلون المغرب حتى يتخلّف عن ذلك المجلس الإيماني أناس، ويخنس آخرون، فإلى أين يا ترى يذهبون؟ وبأي شيء ينشغلون؟ وما سبب تخلفهم؟ ولماذا تواروا عن إخوانهم؟ لقد تفرّقوا مختلفين ولكلٍّ منهم وجهة، فمنهم من جلسوا جلسة لهو ودخان، ومنهم من تسمّروا أمام التلفاز كالإبل العطاش؛ انتظارًا لمسلسل قد طفح الشر فيه وطاش، فلا يدري العاقل ماذا أصاب هؤلاء، وما الذي حدث لأولئك، وأين اختفت تلك الصورة البهية من امتثال الأمر والنهي، وكيف ضعفت تلك القوة في الفعل والترك، وهل كان صيامهم طول النهار عبادة أو هو من قبيل العادات، هل صاموا لله وطاعة لله، أم صاموا من باب: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]. إن العاقل اللبيب ليحتار: كم شخصية يحمل بعض الناس؟! وبكم عقل يفكرون؟! وأي فهم للدين يفهمون؟! وإلا فإن العبادة الحقيقية لله ليست في مكان دون مكان، ولا تقتصر على زمان دون زمان، وليس اتباع الأوامر واجتناب النواهي مقصورًا على حال دون حال، فأينما تولّوا فثَمّ وجه الله، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
فيا أيها المؤمن الصائم المبارك، يا من تقع في معصية الله بُعَيد إفطارك، إن الذي حرّم عليك الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فأطعته ثم أحله لك في الليل فامتثلت أمره، إنه سبحانه هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فحرم أشياء تضر الإنسان أو لا مصلحة له فيها، وأباح له ما فيه نفع ظاهر أو مصلحة راجحة، فلماذا يطيع بعض الناس ربهم حينًا ويعصونه أحيانًا أخرى؟! لماذا يمتنعون عن أشياء ولا يفكرون في إتيانها في بعض الأوقات، ثم يطلقون لأنفسهم العَنان في أشياء أخرى، أو لا يرون في إتيانها بأسًا في أوقات أخر؟! لماذا يطيعون الله في نهار رمضان ويتحملون الجوع والعطش والصبر عما أحل الله، ثم لا يطيقون الصبر عن معصيته في الليل بمشاهدة الحرام وشرب الحرام؟!
أيها المسلمون، أإلهًا واحدًا نعبده ونطيعه بامتثال أمره واجتناب نهيه، أم نحن عبيد للهوى والنفس والشيطان؟! أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43]، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60، 61].
إن الذي لا يكاد يفطر من صومه عما أحل الله حتى يفطر بعده على ما حرمه الله من شرب دخان واستماع غناء أو متابعة مسلسلات أو مشاهدة تمثيليات أو نظر إلى ما حرم الله من صور النساء في التلفاز أو القنوات، إن هذا ـ لعمرو الحق ـ يجني على نفسه جناية عظيمة؛ حيث يبدّد ما جمعه في نهاره من حسنات، ويستعيد ما تخلص منه من سيئات، بل إن في ذلك دليلاً على عدم قبول عمله، إذ إن من علامة قبول العمل الصالح إتباعه بالعمل الصالح كما قرر ذلك العلماء والعارفون، ومن علامة رده ونقصه أن يتبعه العامل بما يبطله وينقضه أو ينقص ثوابه.
أيها المسلمون، إن الصيام الحقيقي ليس في الامتناع عن الطعام والشراب، أو في ترك المفطرات الحسية طول النهار، ثم إطلاق العَنَان للنفس بعد الغروب، لتعُبّ من الملذات وترتع في الشهوات، إن من يفهم الصيام بهذه الكيفية القاصرة فعليه أن يجدد فهمه ويصحح نظرته.
أيها المسلمون، لقد كان خير الأمة وهم صحابة رسول الله كانوا يعملون أعمالاً لا يصل أحدنا اليوم مهما بلغ إلى مِعْشَار عُشْرها، من صلاة وصيام، وصدقة وجهاد، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ومع ذلك كانوا يخافون أن ترد عليهم هذه الأعمال، فلم يكونوا يُدْلُون على الله بأعمالهم، بل كانوا كما قال الله عنهم: يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]. أما نحن اليوم ـ والله المستعان ـ فمع أدائنا العبادات بتثاقل وتكاسل، ومع تقصيرنا الواضح في جنب الله، إلا أننا لا نكاد ننهي العبادة ونخرج منها حتى ننسى أثرها، وننتقل منها إلى المخالفات دون شعور بالتناقض الذي نقع فيه، أو إحساس بقبول أعمالنا أو ردها، بل قد يخيل لبعضنا من قلة فقهه وضحالة فهمه أنه يحمل شهادة قبول لعبادته وطابع رضا عن عمله.
إنه ينبغي للصائم ـ يا عباد الله ـ أن يستشعر عظمة عبادة الصوم التي كان متلبّسًا بها، وعظم الأجر الذي أعده الله للصائمين، فلا يفرّط فيه بما ينقضه أو ينقصه، بل يجب عليه قبل أن يعصي الله سبحانه بأي معصية عليه أن يفكر: هل قُبِل منه صيامه أم رُدَّ عليه؟! فإن كان الله قد تقبل منه صيامه فما هذه ـ والله ـ بحال من يشكر الله على نعمة القبول، وإن كانت الأخرى ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ فكيف يهنأ امرؤ ويضحك وهو مبعد مردود؟!
إن المسلم يجب أن يحيا بين خوف ورجاء، وأن يعيش بين رغبة ورهبة، يرجو رحمة الله ويخاف عذابه، يرغب في جنته ويرهب من النار، تلك هي حال أنبياء الله وأوليائه، إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنه كما أن الحسنات يذهبن السيئات فإن السيئات تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وما حديث المفلس عنا ببعيد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].
|