.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

عشر رمضان وحقيقة الصوم

4655

الرقاق والأخلاق والآداب, فقه

اغتنام الأوقات, الصوم

عبد الله بن محمد البصري

القويعية

جامع الرويضة الجنوبي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- تحقيق الاستسلام لله من أجلّ حكم الصيام. 2- حقيقة الصوم. 3- أحوال الناس بعد الإفطار. 4- علامة قبول العمل الصالح. 5- هل ستدرك رمضان القادم؟ 6- خطورة إهمال الأولاد في العشر الأواخر من رمضان.

الخطبة الأولى

 أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جلّ وعلا، فتمسّكوا بها وحقّقوها، واهجروا الدنيا وطلّقوها، وتخفّفوا من الذنوب وفارقوها، فإنها سبب كل بلاء وطريق كل شقاء، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].

أيها المسلمون، وفي أيام رمضان ـ وما أحلاها من أيام ـ يجتمع الإخوان والأحباب والجيران، ويكتمل عقدهم قُبَيل الغروب في مجلس يغمره الإيمان، فهذا مُهلّل وذاك مكبّر، وهنا داع وهناك مستغفر، لحظات إيمانية ودقائق روحانية، تمثّل الانتصار على النفس وقهر سلطان الهوى والشيطان، وتجسّد الاستسلام للأمر الإلهي والنهي الرباني، وما إن ينطلق صوت المؤذن لصلاة المغرب عاليًا حتى ينطلق القيد ويحلّ ما كان محرّمًا، فما أجمل هذه الصورة في الامتناع عما كان محرمًا، ثم إتيانه حين صار حلالاً، مع أنه ليس بينهما إلا لحظات يسيرة ودقائق معدودة.

إنها ـ والله ـ الصورة التي يجب أن يكون عليها المسلم طول حياته، والشعور الذي يجب أن يحكم جميع تصرفاته، يعبد الله بترك المحظور كما يعبده بفعل المأمور، يمتثل الأوامر ويقف عند النواهي، ويحرص على السنن ويهجر المكروهات، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان:22].

وذلك الاستسلام في الحقيقة ـ أيها المسلمون ـ يعد من أهم أسرار رمضان وأجل حكم الصيام، فالله جل وعلا لم يشرع الصيام على أنه حرمان مؤقت من الأكل والشرب فحسب، ولا ليكون تعذيبًا جسمانيًا بحتًا، أو معركة مبهمة مع أعضاء الجسد، بل شرعه ليكون سبيلاً إلى حرمان دائم للنفس من الشهوات المُسْتَعِرَة، ومنعًا لها عن النزوات المنكرة، شرعه لترويضها على الصبر وتحمّل المشاقّ، ولتحلّ الجد محل الهزل، ولتجعل محل البطالة العمل، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]. والصوم نصف الصبر، كما جاء في الأثر.

ولكن الناس ما يكادون ينتهون من طعام الإفطار ويصلون المغرب حتى يتخلّف عن ذلك المجلس الإيماني أناس، ويخنس آخرون، فإلى أين يا ترى يذهبون؟ وبأي شيء ينشغلون؟ وما سبب تخلفهم؟ ولماذا تواروا عن إخوانهم؟ لقد تفرّقوا مختلفين ولكلٍّ منهم وجهة، فمنهم من جلسوا جلسة لهو ودخان، ومنهم من تسمّروا أمام التلفاز كالإبل العطاش؛ انتظارًا لمسلسل قد طفح الشر فيه وطاش، فلا يدري العاقل ماذا أصاب هؤلاء، وما الذي حدث لأولئك، وأين اختفت تلك الصورة البهية من امتثال الأمر والنهي، وكيف ضعفت تلك القوة في الفعل والترك، وهل كان صيامهم طول النهار عبادة أو هو من قبيل العادات، هل صاموا لله وطاعة لله، أم صاموا من باب: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]. إن العاقل اللبيب ليحتار: كم شخصية يحمل بعض الناس؟! وبكم عقل يفكرون؟! وأي فهم للدين يفهمون؟! وإلا فإن العبادة الحقيقية لله ليست في مكان دون مكان، ولا تقتصر على زمان دون زمان، وليس اتباع الأوامر واجتناب النواهي مقصورًا على حال دون حال، فأينما تولّوا فثَمّ وجه الله، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.

فيا أيها المؤمن الصائم المبارك، يا من تقع في معصية الله بُعَيد إفطارك، إن الذي حرّم عليك الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فأطعته ثم أحله لك في الليل فامتثلت أمره، إنه سبحانه هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فحرم أشياء تضر الإنسان أو لا مصلحة له فيها، وأباح له ما فيه نفع ظاهر أو مصلحة راجحة، فلماذا يطيع بعض الناس ربهم حينًا ويعصونه أحيانًا أخرى؟! لماذا يمتنعون عن أشياء ولا يفكرون في إتيانها في بعض الأوقات، ثم يطلقون لأنفسهم العَنان في أشياء أخرى، أو لا يرون في إتيانها بأسًا في أوقات أخر؟! لماذا يطيعون الله في نهار رمضان ويتحملون الجوع والعطش والصبر عما أحل الله، ثم لا يطيقون الصبر عن معصيته في الليل بمشاهدة الحرام وشرب الحرام؟!

أيها المسلمون، أإلهًا واحدًا نعبده ونطيعه بامتثال أمره واجتناب نهيه، أم نحن عبيد للهوى والنفس والشيطان؟! أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43]، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60، 61].

إن الذي لا يكاد يفطر من صومه عما أحل الله حتى يفطر بعده على ما حرمه الله من شرب دخان واستماع غناء أو متابعة مسلسلات أو مشاهدة تمثيليات أو نظر إلى ما حرم الله من صور النساء في التلفاز أو القنوات، إن هذا ـ لعمرو الحق ـ يجني على نفسه جناية عظيمة؛ حيث يبدّد ما جمعه في نهاره من حسنات، ويستعيد ما تخلص منه من سيئات، بل إن في ذلك دليلاً على عدم قبول عمله، إذ إن من علامة قبول العمل الصالح إتباعه بالعمل الصالح كما قرر ذلك العلماء والعارفون، ومن علامة رده ونقصه أن يتبعه العامل بما يبطله وينقضه أو ينقص ثوابه.

أيها المسلمون، إن الصيام الحقيقي ليس في الامتناع عن الطعام والشراب، أو في ترك المفطرات الحسية طول النهار، ثم إطلاق العَنَان للنفس بعد الغروب، لتعُبّ من الملذات وترتع في الشهوات، إن من يفهم الصيام بهذه الكيفية القاصرة فعليه أن يجدد فهمه ويصحح نظرته.

أيها المسلمون، لقد كان خير الأمة وهم صحابة رسول الله كانوا يعملون أعمالاً لا يصل أحدنا اليوم مهما بلغ إلى مِعْشَار عُشْرها، من صلاة وصيام، وصدقة وجهاد، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ومع ذلك كانوا يخافون أن ترد عليهم هذه الأعمال، فلم يكونوا يُدْلُون على الله بأعمالهم، بل كانوا كما قال الله عنهم: يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]. أما نحن اليوم ـ والله المستعان ـ فمع أدائنا العبادات بتثاقل وتكاسل، ومع تقصيرنا الواضح في جنب الله، إلا أننا لا نكاد ننهي العبادة ونخرج منها حتى ننسى أثرها، وننتقل منها إلى المخالفات دون شعور بالتناقض الذي نقع فيه، أو إحساس بقبول أعمالنا أو ردها، بل قد يخيل لبعضنا من قلة فقهه وضحالة فهمه أنه يحمل شهادة قبول لعبادته وطابع رضا عن عمله.

إنه ينبغي للصائم ـ يا عباد الله ـ أن يستشعر عظمة عبادة الصوم التي كان متلبّسًا بها، وعظم الأجر الذي أعده الله للصائمين، فلا يفرّط فيه بما ينقضه أو ينقصه، بل يجب عليه قبل أن يعصي الله سبحانه بأي معصية عليه أن يفكر: هل قُبِل منه صيامه أم رُدَّ عليه؟! فإن كان الله قد تقبل منه صيامه فما هذه ـ والله ـ بحال من يشكر الله على نعمة القبول، وإن كانت الأخرى ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ فكيف يهنأ امرؤ ويضحك وهو مبعد مردود؟!

إن المسلم يجب أن يحيا بين خوف ورجاء، وأن يعيش بين رغبة ورهبة، يرجو رحمة الله ويخاف عذابه، يرغب في جنته ويرهب من النار، تلك هي حال أنبياء الله وأوليائه، إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].

ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنه كما أن الحسنات يذهبن السيئات فإن السيئات تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وما حديث المفلس عنا ببعيد.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].


 

الخطبة الثانية

أما بعد: فاتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون.

ثم اعلموا أن الله سبحانه قد تفضل عليكم حيث بلغكم أيام رمضان المشرقة ولياليه المباركة، ثم تفضل عليكم ومَنَّ عليكم مرة أخرى حيث بلغكم هذه العشر المباركة، فاغتنموا ما بقي منها بالأعمال الصالحة، واحذروا السيئات والمخالفات، فإن أحدكم لا يدري ـ والله ـ أين رمضان القادم منه، وأين هو من رمضان، فكم صام معنا في العام الماضي من أخ وحبيب، وكم قام معنا من بعيد وقريب، ثم أمّلوا أن يصوموا هذا العام ويقوموا فما استطاعوا، لقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، فأصبحوا في قبورهم وحيدين، وبما قدموا من أعمالهم مرتهنين، لا يستطيعون زيادة في الحسنات ولا نقصًا من السيئات، لقد أتى عليهم هاذِم اللذات ومفرق الجماعات، فاستبدلوا بظاهر الأرض بطنًا ولحودًا، وبالأهل غربة ودودًا، وبالنور والبهاء ظلمة ووحشة، التراب أكفانهم، والرفات جيرانهم، لا يجيبون داعيًا، ولا يسمعون مناديًا. وايم الله ـ يا عباد الله ـ ليوشكن أن يأتي رمضان على أحدنا وقد وُسِّدَ التراب، وفارق الأهل والأولاد والأحباب، فما بالنا وقد مدت آجالنا، وبلغنا الله هذه العشر المباركة، ما بالنا نتكاسل ونتباطأ؟! ولماذا نفرط ونضيع؟! لماذا قلّ المصلون في عشر العتق من النار؟! لماذا كثر المتخلّفون عن صلاة القيام بالأسحار؟! أتراهم استبطؤوا خروج رمضان، أم استثقلوا الطاعة؟! هل استغنوا عن رحمة الله؟! أم هل زهدوا فيما عند الله؟!

فيا معشر الصائمين، صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.

وا إخوتاه، أنقذوا أنفسكم من النار، واطلبوا رحمة العزيز الغفار. وا إخوتاه، خذوا نصيبكم من هذه الأعضاء في طاعة الله قبل أن تودع اللحود ويأكلها الدود. وا إخوتاه، اغتنموا أوقاتكم وساعات أعماركم قبل أن تقولوا: يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها.

وهنا مسألة يجب الاهتمام بها ووضعها في الحسبان، خصوصًا ونحن نعيش آخر هذا الشهر في إجازة من الدراسة والأعمال، ألا وهي أن رمضان ـ وخصوصًا عشره المباركة ـ ينبغي أن تكون محضنًا لتربية الأبناء والأولاد، وزمّهم عن سفاسف الأمور وساقطها، أو عن أن يكونوا أَحْلاس عبث وصخب، قعدًا بكل صراط وطريق، وعلى باب كل مسجد ودار، يهوّشون ويشوشون ويوعدون، أو يؤذون المصلين والتالين، بصوت المفرقعات والألعاب النارية المشؤومة التي ألهتهم عن ذكر الله، وشغلتهم عن الصلاة، وجعلتهم وآباءهم ومن باع هذه المفرقعات واشتراها، جعلتهم عرضة لدعوة مؤمن آذوه، أو مصل شغلوه، أو شيخ من نومه أيقظوه، أو غافل روّعوه، ناهيكم عن العبث بالسيارات في هذه العشر المباركة، وإيذاء الناس في أسواقهم وطرقاتهم بالمهاترات والمعاكسات، ورفع أصوات المسجلات، في خليط من التصرفات الهوجاء التي أحسن ما فيها أنها غير حسنة، في حين أن المستقرّ من مبادئ الإسلام أن هذا الشهر المبارك والموسم العظيم مستقر للعبد ومستراح له، يستجم فيه من وعثاء الكدح وكآبة الدنيا.

ألا فرحم الله امرأً عرف لهذه العشر فضلها، وقدر هذه الليالي حق قدرها، فقضاها في طاعة، وتزوّد من الخيرات، وزمّ نفسه وولده عن المعاصي والسيئات، وكفّ الشر والأذى عن المسلمين والمسلمات، فإن المسلم الحقيقي ـ أيها الإخوة ـ هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله ورسوله عنه.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً