أما بعد: فيقول الله تعالى في محكمه تنزيله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68].
إن الله تبارك وتعالى هو العزيز الحكيم، يصطفي من البقاع والأماكن ما يشاء، ويختار من الأزمان والأوقات ما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لأمره، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
إن الله تبارك وتعالى اصطفى من البقاع البلد الحرام، فاختاره ليبنيَ فيه الخليل الأول إبراهيم عليه السلام البيت الحرام، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]. وجعل خير البقاع المساجد، واختار سبحانه المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فجعلها مهاجر رسوله ومقر أنصاره رضي الله عنهم. وفضل بيت الْمقدس فجعله منزل كثير من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ومعرج خاتم أنبيائه ، وأخبر أنه بارك من حوله.
وربنا سبحانه اختار من الأزمان أوقاتًا فضلها على غيرها، ففضل من أيام الأسبوع يومكم هذا، واختاره تعالى لنقيم فيه هذه الصلاة، ولنجتمع فيه هذا الاجتماع المبارك على ذكره وحمده وعبادته سبحانه، فقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]، وقال النبي : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة)) رواه مسلم (854) عن أبي هريرة.
وفضَّل شهر رمضان على سائر الشهور، واختاره لينزل فيه كتابه الكريم، واختاره ليكون لنا فيه عبادة الصيام، فقال عز من قائل: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
والحكمة من هذا التفضيل أن هذه الأوقات متعلقة بأركان الإسلام الخمسة، وأركان الإسلام أعظم ما فيه، فأما الشهادتان فإنهما وإن كانتا يتلفظ بهما اللسان فإن منبعهما القلب، كما قال النبي : ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه)) رواه البخاري (99) عن أبي هريرة، وقال : ((من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه أو يقينا من قلبه لم يدخل النار أو دخل الجنة))، وقال مرة: ((دخل الجنة ولم تمسه النار)) رواه أحمد (21555) وأبو داود (3116) وابن ماجه (3796) عن جابر وعن معاذ.
ولذلك أخبر النبي أن القلب أفضل الأعضاء وأعظمها شأنًا، فقال: ((إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه البخاري (55) ومسلم (1599).
فأما يوم الجمعة فيتعلق بركن الصلاة وما أدراكم ما الصلاة. وأما شهر رمضان فيتعلق بركن الصيام. وأما ركن الزكاة فإن حكمة الله اقتضت أن لا يتعلق بزمان واحد أو مكان واحد؛ لأن حاجة الفقراء والمساكين لا تختص بيوم دون يوم ولا بمكان دون آخر، ولذلك جعل الله تعالى الزكاة متعلقة بالمال، فحيث ما حال الحول وبلغ النصاب وجبت فيه الزكاة. وأما ركن الحج فقد جعل الله تعالى أيامه خير الأيام على الإطلاق، فقد صح عن النبي أنه قال: ((أفضل أيام الدنيا العشر)) رواه البزار عن جابر بإسناد حسن، ورواه أبو يعلى بإسناد صحيح ولفظه: ((ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة)) وهو في صحيح الترغيب (1150).
ولعل السبب في كون هذه الأيام أفضل الأيام على الإطلاق هو أنها جمعت بين أركان الإسلام الخمسة:
فأما الشهادتان فإن أفضل الحج ((العج الثج)) كما قال ، والعج رفع الصوت بالتلبية: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك". والحج كله توحيد لله تعالى وتمجيد وتحميد وذكر له سبحانه وتعالى. والثج كثرة إهراق الدم بالقرابين.
وأما الصلاة فإنها من أعظم أعمال الحج، وقد رغب فيها النبي خاصة في أفضل بيوت الله تعالى وهو المسجد الحرام، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام)) رواه البخاري (1190) ومسلم (1394)، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاةٍ فيما سواه)) رواه أحمد (14847) وابن ماجه (1406).
وأما الصدقة فإن من أعظم سبل الصدقات الإنفاق في سبيل الله، والحج من أعظم سبيل الله تعالى، والنفقة فيه والصدقات من أعظم القربات عند الله تعالى، وقد قال الله تعالى في الحج: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، وقال عز من قائل: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36]، وأخبر رسول الله أن أجر الحاج يضاعف له على قدر نفقته. رواه البخاري (1787) ومسلم (1311) عن عائشة.
وأما الصيام فقد شرعه الله تعالى لمن لم يجد ثمن الهدي، فقال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196].
فلهذه الفضائل كلها كانت هذه الأيام أفضلَ أيام السنة على الإطلاق، ولذلك كان العمل والعبادة فيها خير وأفضل عند الله تبارك وتعالى، فعن ابن عباس عن النبي أنه قال: ((ما العمل في أيام أفضل منها في هذه)) يعني أيام العشر من ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ((ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)) رواه البخاري (969)، ورواه الدارمي (1774) بلفظ: ((ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرا من خير تعمله في عشر الأضحى))، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)). فكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكاد يُقدَر عليه. صحيح الترغيب (1148).
|