أما بعد: سراديب الظلمات في هذا الزمان كثيرة، وأشرار البلايا في دنيانا مستطيرة، فشمس القوة التي تغير تلك الظلمات والسيف القاطع الذي يقطع تلك الشرور والآفات هو ـ والذي نفسي بيده ـ في تقوى الله عز وجل في أنفسنا وفي أهلينا وفي مجتمعنا وفي كل ما نأتي ونذر في حياتنا، وعد بذلك الحق وهو أحق من وعد فقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2].
إخوة الإسلام، أسئلة تحتاج إلى إجابة، واستفهامات تستدعي أولي الفهم والنجابة: متى يُشد الوثاق المتين الذي تتماسك به عرى الدين وتحفظ به حرمات المسلمين؟! متى تظهر أعلام الشريعة وتفشو أحكام الدين؟! متى يعلو أهل الحق والإيمان ويندحر أهل الباطل والطغيان؟! متى تكشف الشبهات وتمنع الشهوات؟! متى تفيق الأمة كلها رجالها ونساؤها صغارها وكبارها؟! متى تفيق من غفلتها وتصحو من سكرتها؟! متى يستعلن صاحب الحق بحقه ولا يبالي، ويستخفي صاحب الباطل بباطله ويُداري؟! نعم، متى؟! إيه يا قومي متى؟! لا جواب لأن ذا العزة والملكوت والكبرياء والجبروت أجاب، بماذا أجاب؟! أجاب بأن هذا لن يتحقق إلا عندما تعود الأمة إلى مكمن خيريتها وسرِّ عزها وقوتها، ما هو؟! قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حصن الإسلام الحصين، صُدت به نزوات الشياطين، وردت به دعوات الأفاكين والفاجرين، التأريخ يشهد لكم كان ـ وربي ـ درعًا واقيًا من الفتن، وسياجًا دافعًا من المعاصي والمحن. جعله الله فيصل التفرقة بين المنافقين والمؤمنين، قال تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ [التوبة:67]، وقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [التوبة:71].
عز المؤمن وذلُّ المنافق فيه، يقول سفيان رحمه الله: "إذا أمرت بالمعروف شددتَّ ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق".
كفاك أنه صفة بل مهمة أفضل خلق الله، ألا وهم الأنبياء والمرسلون، قال الله في وصف إمامهم محمد : يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، وقال الله في شأن نبيه إسماعيل عليه السلام: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:55]، وما من نبي إلا قال لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:23]. وهو ركن ركين للتمكين في الأرض، قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].
أما أهله فأكرم بهم، فقد رتب الله لهم الفلاح بأمرهم ونهيهم، قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. وبُشروا برحمة الله في آخر الآية التي وصفت المؤمنين بالأمر والنهي اختتمت بقوله تعالى: أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]. وسبحان الله، يعطون مثل أجور من سبق من هذه الأمة، فقد روى الإمام أحمد وحسنه الألباني أن رسول الله قال: ((إن من أمتي قومًا يعطون مثل أجور أولهم؛ ينكرون المنكر)).
وما أعظم ـ والله ـ وأعلى منزلتهم، وهذا ما استنبطه الحسن رحمه الله من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]، قال الحسن رحمه الله: "إن في هذه الآية دليلاً على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر تلي منزلته عند الله منزلة الأنبياء، فلهذا ذُكر عُقيبهم".
ولقد كان السلف يرون من لا يأمر ولا ينهى في عداد أموات الأحياء، قيل لابن مسعود: من ميت الأحياء؟ فقال: (الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا).
إخوة الإسلام، سنن الله تعالى في خلقه ثابتة لا تتغير، ولا تحابي أحدًا، ولا تتخلف عند وجود أسبابها، وإن الله جل في علاه يغضب ويلعن، فهذه صرخة نذير، وصيحة تحذير، يصرخ بها الدعاة، ويصيح بها المشفقون على الأمة، ينادون بها الأفواج الهائلة السائرة في غيها التاركة لأمر ربها، المتنكبة لطريقها، الساكتة عن خطئها، غضيضة الطرف عن سوءاتها وإجرامها. ألا يا قوم، انتبهوا قبل أن تحل اللعنة. ألا يا قوم، استيقظوا قبل أن تحل اللعنة. ألا يا قوم، كفوا قبل أن تحل اللعنة. ألا يا قوم، مروا أمركم وازجروا زجركم وأقيموا شعيرة ربكم قبل أن تحل اللعنة، بل قبل أن تحل اللعنات تلو اللعنات، ممن؟ من ربك الذي إذا غضب لم تقم لغضبه الأرض والسموات، ممن يغار على حُرمه، ويبتلي بالمصائب والبليات.
ألا أين المعتبرون؟! ألا أين الذين يقرؤون ويتفكرون؟! إنها لعنة لعنها الله سبحانه في كتابه تذكرةً وعبرة، فقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]. فيا لله، ورحماك ربي، إنا لا نقوى على لعنتك، إنا لا نقوى على لعنتك، الطف بنا أنت اللطيف، ارحمنا فأنت الرحيم.
عباد الله، أولى لعنات ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثرة الخبث، روى البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي استيقظ يومًا من نومه فزعًا وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا)) وحلق بين أصبعيه السبابة والإبهام، فقالت له زينب رضي الله عنها: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)). والخبث يكثر ـ يا رعاكم الله ـ إذا أعلن المنكر في المجتمع ولا يوجد من ينكره، فإن سوقه تقوم وعوده يشتد ورواقه يمتد، عندها يقصر المعروف ويحدّ، فيعم الفساد ويستوحش الأخيار ويهلك العباد. ويا لله، الفساد يوحش ولو كان قليلاً، وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [النمل:48]، حين قرأ مالك بن دينار رحمه الله هذه الآية قال: "فكم اليوم في كل قبيلة وحيّ من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون". فيا لله، ماذا لو رأى مالك أحوال المسلمين اليوم؟! والله المستعان.
اللعنة الثانية لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إيذان الله بالعذاب الإلهي العام والهلاك الشامل، وقد قال الله سبحانه عن أصحاب القرية: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:165، 166]، وأخرج أبو داود من حديث جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من رجلٍ يكون في قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلم يغيروا إلا أصابهم الله بعقابٍ قبل أن يموتوا)).
اللعنة الثالثة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاختلاف والتناحر، وإذا أردت أن تعرف الارتباط الوثيق بينهما انظر ماذا قال الله بعد قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، قال بعدها مباشرة: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]. وروى أبو داود والترمذي أن النبي قال: ((كلا والله، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم)) يعني بني إسرائيل. وانظر لحال كثير من مجتمعات المسلمين فهي خير شاهد على ذلك، وما في القلوب من الغل والحقد والحسد والتناحر، والله المستعان.
اللعنة الرابعة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم إجابة الدعاء، روى الترمذي عن حذيفة بن اليمان عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم)). نعم، ((تدعونه فلا يُستجاب لكم))؛ إنها لعنة العظيم إذا غضب، وماذا يبقى للناس إذًا؟! ماذا يبقى للناس إذا أوصدت دونهم رحمة الله؟! لمن يلجؤون في هذا الكون العريض كله وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب؟! فالبدار البدار قبل أن تحلَّ اللعنة.
اللعنة الخامسة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظهور الجهل واندراس العلم واختفاء معالم الدين، فيكون الدين غريبًا، وذلك أن المنكر إذا ظهر فلم يُنكر نشأ عليه الصغير وألفه الكبير، وظنوه مع مرور الزمن من الحق، عندها ينكرُ على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ويعظم الساكت، قال الإمام أحمد: "يأتي على الناس زمانٌ يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافق يُشار إليه بالأصابع"، قيل: يا أبا عبد الله، وكيف يُشار إلى المنافق بالأصابع؟! فقال: "صيروا أمر الله فضولا"، وقال: "المؤمن إذا رأى أمرًا بالمعروف أو نهيًا عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهى، يعني قالوا: في هذا فضول، والمنافق كل شيء يراه قال بيده على فمه، فقالوا: نِعمَ الرجل، ليس بينه وبين الفضول عمل".
وها هو اليوم يقال في كثير من المجتمعات لمن يأمر وينهى: أنت تتدخل فيما لا يعنيك، ليس لك شأن، حتى أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللعنة السادسة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تسليط الأعداء، فإن الله عز وجل قد يبتلي المجتمع التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن يسلط عليهم عدوًا خارجيًا، فيؤذيهم ويستبيح بيضتهم، ويتحكم في رقابهم وأموالهم.
والتاريخ حافل بشواهد على ذلك، انظر للمسلمين في الأندلس كيف تحولت عزتهم وقوتهم ومنعتهم لما شاعت بينهم المنكرات بلا نكير إلى ذل وهوان، سامهم النصارى حتى بيع سادة المسلمين آنذاك في أسواق الرقيق وهم يبكون، كما قال الشاعر:
فلو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الوجد واستهوتك أحزانُ
اللعنة السابعة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأزمات الاقتصادية، نعم إن المجتمع الذي يُفرِّط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد تتلاطم به أمواج الفقر والضوائق ويذوق ويلات الحرمان، فالربا يعلن فيه ويستعلن به، والرشوة يجاهر بها، والغش يضرب بأطنابه في بيوع المجتمع، وأكل أموال الضعفاء، والشفاعات التي يؤخذ بها حقوق الغير، كل هذه وغيرها إذا سكت عنها ولم تنكر، عندها تحل بالمجتمع ضائقات المال، وما ظلمهم ربك ولكن بما كسبت أيديهم، فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ [يونس:102].
اللعنة الثامنة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة للفرد اسودادُ قلبه وتنكيسه حيث جاء في الحديث الصحيح قوله : ((تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلبٍ أُشربها نَكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مُجَخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرب من هواه)). ألا إنها حقًا لعنات قاسية وعقوبات قاضية، لكنها سنة الله الماضية.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
|