أمّا بعد: فاتقوا الله بلزوم طاعته والبعد عن معصيته، فتقوى الله حصن أمين وعاقبة خير وصلاحٍ وسعادة وفلاح.
عباد الله، لقد منَّ الله علينا بشهر رمضان المبارك، وجعله زمنًا وميدانًا للأعمال الصالحات، يتسابق فيه المتسابقون، ويجتهد فيه بعمل الخير المسلمون، فمن وفَّقه الله فيما خلا من أيامه لفعل الخيرات وترك المنكرات فليحمدِ الله على ذلك؛ بأن أعانه على الطاعة وحفظَه من المعصية، فإنّ الله تعالى يقول: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]، ويقول تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231]، ويقول تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21]، ويقول تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83]، وعن سلمةَ بن الأكوع رضي الله عنه قال: خرجنا إلى خيبر مع النبي قال فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم:
والله لولا الله مـا اهتدينـا ولا تصدقنا ولا صلينا
ونحن من فضلك ما استغنينا فثبِّت الأقدامَ إن لاقَينا
وأنزلن سكينة علينا
فقال : ((من هذا؟)) قال: أنا عامر، قال: ((غفر لك ربُّك))، وما استغفر رسول الله لإنسانٍ يخصُّه إلا استُشهِد. رواه مسلم.
فالنبيّ سرَّه أن أثنى عامرٌ رضي الله عنه بنِعم الطاعات على الربِّ الواهب النّعمِ بارئ النّسَم، فمن وفَّقه الله في تلك الأيام المنصرمةِ فعليه أن يشكرَ ربَّه، وأن يختمَ بقيّةَ الأيام المنيفةِ والساعات الشريفة بأفضل ما يقدر عليه من الطاعاتِ والحذر من المحرّمات، فإنَّ الأعمالَ بالخواتيم، والجوادُ عند الاقتراب من غاية الميدان يزيد جريه.
ومن قصّر في أيّامه الخالية فعليه أن يستدركَ ما فات، وأن يغتنمَ عمره قبلَ الممات، وأن يتوب إلى الله من العصيان، وأن يكون على ما يحبّ الرحمن فيما يستقبل من الزمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه)) رواه مسلم. فكم من مستقبلٍ يومًا لم يكمله، وكم من مؤمِّلٍ لم يدرك أملَه، والأجل لا يأتي إلا بغتةً، لا يفرِّق بين صغير وكبير، ولا ذكرٍ وأنثى، قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11].
فاغتنموا ـ عبادَ الله ـ بقيّةَ شهركم بالتوبة إلى الله من جميع الذنوب، واغتنموه بالأعمال الصالحة، وتحرَّوا ليلة القدر، فقد تكون فيما بقي من الليالي الشريفةِ، فإنَّ الأحاديثَ تدلّ على أنها متنقِّلةٌ في ليالي العشر كلِّها، وما من ليلةٍ من ليالي العشر إلاّ وردتِ الأحاديث بتحرِّي ليلة القدر فيها، وأخفاها الله ولم يعيِّنها ليجتهدَ المسلم في الطاعات في العشر كلِّها، فإذا فعل ذلك أصابها، فمن وُفِّق لتلك الليلة فقد أصاب خيرًا كثيرًا، عن عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((التمسوها في العشر الأواخر، فإنها في وتر؛ في إحدى وعشرين، أو ثلاثٍ وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبعٍ وعشرين، أو تسع وعشرين، أو في آخر ليلة، فمن قامها إيمانًا واحتسابًا ثمّ وفِّقت له غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر)) رواه أحمد والطبراني في الكبير.
وليلةُ القدر يلتقي فيها أهلُ السماء بأهل الأرض، ويعمّ الأرضَ أنوار الملائِكة، ويعبدون الربَّ في الأرض كما عبدوه في السماء، وينفِّذون ما أمرهم الله به منَ الأقدار، قال الله تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر:3، 4]، فالعبادةُ فيها أفضل من عبادة ثلاثٍ وثمانين سنة وأربعة أشهرٍ ليس فيها ليلة القدر.
يا من صفَت له الأوقات في شهر الخيرات، يا من عمَر شهر رمضان بالطاعات والصالحات، يا من زكّى بدنَه بالصلوات، يا من طهّر مالَه بالزكاة والصدقات، يا من فاضت عينُه بالعبرات، لا تجعلِ الأعمالَ الصالحة بعد رمضانَ هباءً منثورًا؛ فإنّ عدوَّك الشيطانَ يتربّص بك، ولا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
أيها المسلمون، احذَروا عدوَّكم الشيطانَ الذي يريد أن تكونَ حَياتكم لهوًا ولعبًا وكسَلاً عنِ الطاعات، ويريد أن يَنغمسَ الإنسان في اللّذائذ المحرَّماتِ والشهواتِ، وأن يَغرقَ في بحار الغفلةِ والموبقات، فاعتصموا بربكم، واثبتوا على صراط الله المستقيم، فإنّه الطريق إلى جنّات النعيم.، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5، 6].
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هَذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
|