أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، اتقوه وأخلصوا له الدين وأحسنوا العبادة.
أيها المسلمون، تبتلى الأمم في أيام محنتها وانتقاص أطرافها وضعف نفوس ابنائها بأمراض كثيرة، تضعف شأنها، وتقوض صفاء عيشها وطمأنينة مسيرتها وسلامة طرق الكسب فيها، وتقضي على حياتها.
إن من شر ما تصاب به الأمم في أهلها وبنيها أن تمتد أيدي فئات من عُمَّالها وأصحاب المسؤوليات فيها إلى تناول ما ليس بحق. فصاحب الحق عندهم لا ينال حقه إلا إذا قدم مالاً، وذو الظلامة فيهم لا ترفع مظلمته إلا إذا دفع رشوة.
أيها الإخوة: وفي قراءة تاريخ الأمم: لقد نعت الله قوماً من قبلكم بأنهم: سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]. إنهم أقوام طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وانطفأت جذوة الإيمان في صدورهم، وثقلت عليهم التكاليف وكرهوا الشرائع، فأحبوا الكذب، وألفوا الزور وسمعوه وسعدوا به، وكرهوا الحق، ونبذوا الصدق: يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْوٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هِادُواْ سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:41،42].
هذه طبيعة القلوب حين تفسد، والأرواح حين تطمس، تحب الباطل والزور قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْوٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ [المائدة:41]. يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ [المائدة:41].
نعم أيها الإخوة: مسالك الباطل وأساليب السحت رائجة في المجتمعات المنحرفة، أما طرق الحق وأنوار الصدق فهي عندهم مظلمة معتمة.
وفي نعت آخر لهؤلاء وأمثالهم: وَتَرَىٰ كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَـٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلاْحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة:62،63]. مسئولية مشتركة بين الواقع في الإثم والمقتصر في الأمر والنهي.
سور قرآنية لنفوس مريضة قد استشرى الفساد في أحشائها، وسقطت القيم من حسابها.
مسارعة بارتكاب الآثام، واجتراء في العدوان على الحقوق، وتهارش وتكالب على أنواع السحت لقد سيطر الشر على تفكيرها، وامتلأت بالحرام أجوافها، فاستباحت حمى الله ومحارمه. ولا تسل ـ عافاك الله ـ عما ينجم من الأضرار التي لا حصر لها من أكل السحت وبذل الرشاوى؛ فالكرامة ضائعة، والحقوق مهضومة، والنبوغ مقبور، والجد مدفون، والغيرة على مصالح الأمة مضمحلة. والأمانة في خدمتها غائبة، وتقدير المخلصين متلاشٍ.
الرشوة خيانة عند جميع أهل الأرض وهي في دين الله أعظم إثمًا وأشد مقتًا: ((لعن رسول الله الراشي والمرتشي)).
إنها تخفي الجرائم، وتستر القبائح وتزيف الحقائق.
بالرشوة يفلت المجرم ويدان البريء، بها يفسد ميزان العدل الذي قامت به السموات والأرض، وقام عليه عمران المجتمع، هي المعول الهدام للدين والفضيلة والخلق.
الرشوة ـ أيها الناس ـ تلبس عند أهلها ثيابًا مستعارة، فتأخذ صورًا متلونة، وأغراضًا متعددة. فهذه هدية وتلك إكرامية، وهذه محاباة في بيع أو شراء، وذلك إبراء من الدين. والصور في ذلك لا تتناهى، وسبل الشياطين وأعوانهم في ذلك عريضة واسعة.
في القطاع العام والقطاع الخاص، وفي المؤسسات وفي الشركات.
أما أغراضها عندهم فمتعددة: طمس لحق أو سكوت على باطل، وتقديم لمتأخر وتأخير لمتقدم، ورفع لخامل، ومنع لكفءٍ، وتغيير للشروط، وإخلال بالمواصفات، وعبث بالمناقصات، وتلاعب في المواعيد، في أغراض لا تتناهى.
أما الراشي والمرتشي والرائش فإنهم ـ لا بارك الله فيهم ولا لهم ـ متساعدون على تضييع الحقوق ويروجون لأكل أموال الناس بالباطل، ويزرعون السيئ من الأخلاق، ومن ثم تستمرئ الأمة هذا المرعى الوبيل.
الراشي والمرتشي والرائش ملعونون عند الله على لسان رسول الله ، مطرودون من رحمة الله ممحوق كسبهم، زائلة بركتهم، خسروا دينهم وأضاعوا أمانتهم، استسلموا للمطامع، واستعبدتهم الأهواء. وأغضبوا الرب، وخانوا الإخوان، وغشوا الأمة، في نفوس خسيسة وهمم دنيئة.
كم من مظالم انتهكت، وكم من دماء ضيعت، وكم من حقوق طمست، ما أضاعها وما طمسها إلا الراشون والمرتشون فحسبهم الله الذي لا تنام عينه، وويل لهم مما عملت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
أيها الإخوة، الرشوة فخ المروءة، ومصيدة الأمانة، وغرق الديانة وحبائل الشرف.
بفشوِّ الرشوة تصاب مصالح الأمة بالشلل، وعقول النابغة بالقصم، ومواهب المفكرين بالجمود، وجهود العاملين بالفتور وعزائم المجدين بالخور.
أي خير يرجى في قوم مقياس الكفاءة فيهم ما يتزلف به المرءوس لرؤسائه من قرابين؟! وأي إنتاج يرتجى لأعمال لا تسير عندهم إلا بعد هدايا الراشين والمرتشين؟!
نفدت ثروات، وهدمت بيوت، وأهينت نفوس، وفرقت جماعات، وارتفع باطل، وغاب حق، وما كان ذلك إلا بسبب الرشاوى المحرمة والخصومات الفاجرة والإدلاء إلى الحكام بالباطل.
وإنك لترى في المفتونين من هؤلاء من يزعم أنه ذو شطارة ودهاء، وقد عمي عمَّا أصابه من الأرزاء وتعب النفس والقلب وإيذاء عباد الله والاستغراق في الحرام، فتراه مع أقرانه بالفسق يتنابذون، بالحسد والكيد يتعاملون، ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الخاسرون.
ولقد جاء في الخبر عنه : ((وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب))، ((والراشي والمرتشي في النار)).
وقد وأخرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: ((استعمل رسول الله رجلاً من بني أسد يقال له: ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام النبي فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا أهدي لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته؛ إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيْعَِر. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه. ألا هل بلغت ـ ثلاثا ـ )).
بلى لقد بلغ عليه الصلاة والسلام. فوالله ((لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله؛ من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟))، وإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن. فأنى صلاح، وهم ذوو جرأة على الله، حتى إنهم ليأخذون من الحرام الصراح، لا يتوبون ولاهم يذكرون؟!
يقول يوسف بن أسباط: إن الرجل إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعم سوء قال: دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه. قال الحافظ الذهبي رحمه الله: ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث رسول الله : ((في الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، ومطعمه من حرام، ومشربه من حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!)).
لهذا قال بعض السلف: لو قمت قيام السارية ما نفعك حتى تعلم ما يدخل بطنك؛ أحلال أم حرام؟
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وراقبوا ربكم، فرُب متخوضٍ في مال الله له النار يوم القيمامة، ألا يخشى أكَـلة السحت أن يسحتهم الله بعذاب؟! وقد خاب من افترى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُم بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].
صحيح، أخرجه أحمد (2/164)، وأبو داود: كتاب الأقضية – باب في كراهية الرشوة، حديث (3580)، والترمذي: كتاب الأحكام – باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، حديث (1336، 1337) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه: كتاب الأحكام – باب التغليظ في الحيف والرشوة، حديث (2313). وصححه ابن الجارود (585)، وابن حبان (5076) ولفظهما: ((لعن الله...)) و الحاكم (4/102-103)، باللفظ المذكور في الخطبة. قال المنذري (3/125) والهيثمي في المجمع (4/199): رجاله ثقات. وصححه ابن حجر في الفتح (5/221) والألباني في صحيح الترمذي (1073، 1074).
ضعيف، أخرجه أحمد (4/205)، قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد بإسناد فيه نظر (3/7)، وقال الهيثمي: فيه من لم أعرفه مجمع الزوائد (4/118). وانظر: فيض القدير (5/494)، والسلسلة الضعيفة للألباني (1236).
ضعيف، أخرجه البزار (1037)، والطبراني في الأوسط (2026)، والصغير (58)، قال الهيثمي: رواه البزار، وفيه من لم أعرفه، مجمع الزوائد (4/199). وضعفه الألباني، ضعيف الجامع (3146).
عرفتي إبطيه: بضم العين وفتحها والأشهر الضم، انظر لسان العرب (4/585) مادة (عفر)، وعفره الإبط: هي البياض ليس الناصح.
صحيح، صحيح البخاري: كتاب الهبة وفضلها... باب من لم يقبل الهدية لعلّة، حديث (2597)، وأخرجه أيضاً مسلم: كتاب الإمارة – باب تحريم هدايا العمال، حديث (1832).
صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع – باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص، حديث (2417)، والدارمي: المقدمة – باب من كره الشهرة والمعرفة، حديث (537، 539)، والطبراني في الكبير (20/60)، وقواه المنذري في الترغيب بشواهده (1/73)، وقال الهيثمي: رجال الطبراني رجال الصحيح غير صامت بن معاذ، وعدي بن عدي الكندي وهما ثقتان. مجمع الزوائد (10/346)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (946).
صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الزكاة – باب قبول الصدقة... حديث (1015). |