أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:23، 24].
عباد الله، اتقوا الله واحذروا غضبه وعقابه، واتقوا عذابًا لا يخص أهل الفجور والمعاصي وحدهم، بل يُهلكهم ومن سكت عنهم، ولا ينجو إلا من كان ينهى عن السوء، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165].
عباد الله، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واعلموا أن الخبث قد كثر، وأن الشر قد انتشر، وإن لم نقم بما أوجب الله علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن لم نغضب مما يُغضب الله، وإن لم تتمعر وجوهنا لانتهاك حرمات الله فلنهلكن مع الهالكين، ولنغرقن مع الغارقين، وليبدأن الله بعبد لم يتمعّر وجهه فيه، قال : ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم))، وقال : ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعمله لم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب))، قالت زينب بنت جحش : يا رسول الله، أنهلِك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم؛ إذا كَثُرَ الخبث)).
عباد الله، إن الله سائلنا عن قيامنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هل أنكرت المنكر حين رأيته أم لا؟ وهل عملت على تغييره أم لم تعمل؟ وليس الله سائلك عن الناس: هل انتهوا عن سوئهم أم لا؟ فما على الرسول إلا البلاغ المبين.
عباد الله، يقول الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [التوبة:71]. من صفات المؤمنين والمؤمنات أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن صفة المؤمنين، وواجب عليه أن يقوم بما أمره الله بالقيام به، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل يجب هذا حتى على أصحاب المنكر وهم في منكرهم أن ينهى بعضهم بعضًا عن فعله، يقول تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]، فحتى من تلبس بالمعصية واجب عليه أن يسعى لإصلاح نفسه وأن ينهى غيره عن فعلها، فترك النهي عن المنكر سبب لحلول اللعنة بالعبد حتى وإن كان من أصحاب ذلك المنكر، ولن تكون هذه الأمة خير الأمم إلا إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، فإن الله تعالى يقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأمة، إن قام به البعض كفى غيره، وإن لم يقم به أحد أثموا جميعًا، فلو رأيت منكرًا ولم ينكره غيرك تعين عليك إنكاره، فإن لم تفعل أثمت ومن رآه معك.
عباد الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُظهر الدين ويعز شأنه ويعليه، وبه يعرف الحلال من الحرام، وتعرف السنة من البدعة، ويَعز أهل الطاعة، ويذل أهل المعصية والفجور، ولو سَكت الناس عن إنكار المنكر لصار أمرًا عاديًا يألفه الناس، بخلاف ما لو أنكروا ونصحوا وتكلموا، يقول سفيان رحمه الله: "إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق"، ويقول الإمام أحمد: "إن المنافق إذا خالط أهل الإيمان فأثمرت عدواه ثمرتها صار المؤمن بين الناس معزولاً"، لأن المنافق يصمت عن المنكر وأهله، فيصفه الناس بالكياسة والبعد عن الفضول، ويسمّون المؤمن فضوليًا.
فواجب على كل مسلم ومسلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حسب الاستطاعة، وبخاصة فيما تحت قدرتهم من منكرات البيوت وما في حكمها، قال : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). تنكر على كل من جاهر بمعصية الله مِن كل مَن خلقه الله، حتى لو لم يكن من المسلمين، من أهل الكتاب كاليهود والنصارى وغيرهم، فإنهم مأمورون بالإيمان بهذا النبي الذي أُرسل إلى الناس كافة، والذي بُعث إلى الثقلين، وهم مسؤولون عنه في قبورهم، ومسؤولون عنه يوم بعثهم ونشورهم، قال : ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار))، فهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى الذين كفروا بمحمد وكذّبوه مأمورون بالإيمان به وبمتابعته، ومحاسبون على مخالفتهم شرع الله الذي أنزله عليه: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر42-46]، فهم مع كفرهم وتكذيبهم بيوم الدين محاسبون على ترك الصلاة وعدم إطعام المسكين والخوض مع الخائضين، فحوسبوا بالمعاصي وأُوخذوا بها مع أنهم كفار.
ولا يضعف المسلم أو يتوانى بدعوى أنه غير كامل في نفسه، بل عليه أن يسعى في إكمال نفسه مع أمره ونهيه لغيره، ولا بد لمن قام بهذا الأمر من التحلي بالرفق وسعة الصدر وإن سمع ما يكره، فلا يغضب كأنه منتصر لنفسه، ولينظر للواقعين في المعاصي بعين الشفقة والرحمة والنصح، وليعرف نعمة الله عليه حيث لم يقع فيما وقعوا فيه، ولا ينظر إليهم نظر ازدراء وإعجاب بالنفس، فبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، وعليه بالتخلق بالصبر على ما يلقى، فهو ملاق أذى كثيرًا، يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]، وليبتعد عن المداهنة والمداراة، ولا يأسف على من هجره وقلاه، ولا يحزن على من فارقه وخذله، وليقطع أطماعه في الخلق، ويجعل تعلقه بربه ومولاه، لا يتوكل إلا عليه، فمن توكل عليه كفاه، ومن استغنى به أغناه.
فاتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أنه متى ما ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ازداد ظهور الفساد، وأصبح أصحاب المنكر يأتونه بعزة وتبجح، يقوي بعضهم بعضًا على إظهار المنكرات وإعلانها, وعندها تخرب البلاد ويهلك العباد ويحل عذاب الله، وإن عذاب الله لشديد.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة خير عباده، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|