.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

على عتبة العشر الأواخر

4576

الرقاق والأخلاق والآداب

اغتنام الأوقات, فضائل الأعمال

عبد المحسن بن محمد القاسم

المدينة المنورة

18/9/1426

المسجد النبوي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- فضائل العشر الأواخر من رمضان. 2- فضيلة قيام الليل والدعاء. 3- التذكير بأداء الزكاة وبذل الصدقة. 4- حرمة شهر رمضان. 5- الحث على اغتنام ما بقي من الشهر.

الخطبة الأولى

أمّا بَعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التّقوى، وراقبوه في السرِّ والنَّجوَى.

أيّها المسلمون، شرُفت هذه الأمّةُ بشهرٍ تتطهَّر فيه النفوس من العصيان والآثام ومن مساوئ الأفعال والخصال، يشغَل المسلِمون فيه أوقاتَهم بالطّاعة وتِلاوة القرآن، ينزِّه الصيامُ نفوسَهم، ويهذِّب القِيامُ أخلاقَهم، ويُلين القرآن قلوبَهم، يتسَابقون في ليالِيه بالفَضائل، ويتنافسون في أيّامه بالجود، وفي عَشرِه الأواخر تزكو الأعمال وتُنال الآمَال، تقولُ عائشة رضي الله عَنها: كان النبيُّ إذا دَخَلتِ العَشر الأواخرُ أحيا الليلَ وأيقَظ أهلَه وشَدَّ المئزر. متّفق عليه[1]. وكان عَليه الصلاة والسّلام يضاعِف أعماله الصّالحةَ في شهرِ رمضان، ويخصّ العشرَ مِنها بالمضاعفةِ، تقول عائِشة رضي الله عنها: كانَ رَسول الله يجتَهِد في رمَضان ما لا يجتَهِد في غيره، وفي العَشرِ الأواخر منه ما لا يجتَهِد في غيرها. رواه مسلم[2]. إنَّها سوقٌ يتنافَس فيها المشمِّرون، وامتِحانٌ تبتَلَى فيها الهِمَم.

وفي العَشرِ الأواخرِ ليلةٌ مباركةٌ هِيَ تاجُ ليالي الدّهر، كثيرةُ البرَكاتِ، عَزِيزَة السّاعَات، القَليلُ مِنَ العمَلِ فيها كَثيرٌ، والكثيرُ منها مُضَاعَف، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]، ينزِل مِنَ السّماءِ خَلقٌ عَظيم لشُهودِ تلكَ اللّيلةِ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [القدر:4]، القَائمُ في ليلَتِها بالتّعبُّد مغفورٌ له ذنبُه، يقول المصطَفى : ((مَن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتِسابًا غفِر لَه ما تقَدَّم مِن ذَنبِه)) متّفق عليه[3]. فيها تُفتَح الأبوابُ ويسمَع الخطاب، يصِل فيهَا الرّبّ ويقطَع، يعطي ويمنَع، يخفِض ويرفَع، تقول عائشة رضيَ الله عنها: قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيتَ إن عَلِمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةَ القدر ما أقول؟ قال: ((قولي: اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحبّ العفو فاعف عنّي)) رواه الترمذي[4].

أيّها المسلِمون، أفضل الصلاةِ بعد الفريضةِ صَلاة الليل، ولم يكنِ النبيّ يدَعُ قيامَ اللّيل في سفرٍ أو حضَر، وكان يصلّيهِ قائمًا وقاعدًا حتّى تتفطّر قدَماه. وسارَ رَكبُ الصحابة المبارك على هديِ ربِّهم في ذلك، قال عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل:20]، وقال سبحانه في وصفِ الصحابة: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29].

والقيامُ للهِ في الظُّلَم من أعمَال أهل الإيمان، كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]. وصَلاةُ اللّيل أعظم ما يُرجَى وأزكَى ما يُقدَّم، وهي مِن أسبابِ دُخولِ الجِنان، يقولُ عليه الصّلاة والسّلام: ((يا أيّها النّاس، أفشُوا السّلامَ وأطعِموا الطّعامَ وصِلوا الأرحامَ وصَلّوا باللّيل والنّاسُ نِيامٌ تَدخُلُوا الجنّةَ بسَلامٍ)) رواه الترمذي[5]. ولَيالي رَمضانَ مبَشَّرٌ من قامَها بغُفرانِ الذّنوبِ، قال عليه الصلاة والسلام: ((مَن قامَ رَمضانَ إيمانًا واحتِسابًا غفِر لَه ما تقَدَّم مِن ذَنبِه)) متّفق عليه[6].

أيّها المسلمون، الدّعاءُ حَبلٌ ممدود بين السّماء والأرض، وهو المغنَمُ بلا عَناءٍ ومِن أنفعِ الأدوِيَة للدَّاء، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، في كلِّ ليلةٍ ساعةُ إجابةٍ، الأبوابُ فيها تفتَّح، والكَريم فيها يمنَح، فسَل فيها ما شِئتَ، فخزائِن الله ملأَى، والمعطِي كريم، وأيقِن بالإجابةِ فالربُّ قديرٌ، وبُثَّ إليه شكواك فإنّه الرّحيم، يقول النبيّ : ((إنَّ في اللّيلِ ساعةً لا يوافِقُها رجلٌ مسلِم يسأَل الله خيرًا مِن أمرِ الدّنيَا والآخرَةِ إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلَّ ليلةٍ)) رواه مسلم[7]. ونَسَماتُ آخِرِ اللّيل مظِنّة إجابَةِ الدّعوات، قيل للنّبيّ : أيّ الدّعاءِ أسمع؟ قال: ((جوفُ اللّيل الآخر ودبُر الصلوات المكتوبة)) رواه الترمذي[8].

والعبدُ مفتقرٌ إلى محوِ أدران خطاياه والانكسار بين يدَي اللهِ والافتقارِ إليه، ومِن أرجَى أحوال التذلُّل الاعتكاف في بيتٍ من بيوت الله طلبًا لعفوِ الله، وكان نبيُّنا يعتَكف العشرَ الأخيرةَ من رمَضان[9]. وإذا قرب العبد من ربِّه لطَفَ الله به، وساق إليه الإحسانَ من حيثُ لا يشعُر، وعصمَه من الشرِّ من حيث لا يحتَسِب.

أيّها المسلمون، الزّكاةُ رُكنٌ من أركانِ الإسلام ومبنًى من مبانِيه العظام، فيها تقوَى أواصِرُ المودَّة بين المسلِمين، وفيها تطهيرُ النفوسِ وتزكِيَتها من الشحِّ، يقول عزّ وجلّ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، وهِيَ حقٌّ واجِبٌ وشريعة عادِلة، فيها استِجلاب البركةِ والزيادةِ والخُلف من الله، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39]. في الزكاةِ سموٌّ بالأرواح والأخلاقِ بالجود والسّخاء، بها يكتَمِل العدلُ ويعمُّ الرّخاء ويسعَد الفقراء، وهي حِليَة الأغنياء وزِينة الأتقياء ووصيَّة الأنبياء، قال عزّ وجلّ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:54، 55].

وجاء الوعيدُ في حقّ من بخل بها، قال سبحانه: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، يَقول عَليه الصلاة والسلام: ((من آتاه الله مالاً فلَم يؤدِّ زَكاتَه مثِّل له مالُه شجاعًا أقرع ـ وهو الحيّة التي سقطَ فَروةُ رأسِها مِن كَثرة سمِّها ـ له زبيبَتان، يُطوَّقه يومَ القيامة، ثمّ يأخذ بلِهزِمَتَيه ـ يعني شِدقَيه ـ، ثمّ يقول: أنا مالُك أنا كَنزك))، ثم تلا النبيُّ قوله عزّ وجلّ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180]. متفق عليه[10].

فتواضَع بقلبك للمِسكين، وابذُل له كفَّ النّدى وادنُ منه واحنُ عليه، ولا تحتقِر فقيرًا فإنّ أكثرَ أهل الجنة همُ الفقراء، وأنفِق بكرَم يدٍ وسَخاوةِ نفسٍ يبارَك لك في المالِ و الوَلد، والصدقةُ دواءُ الأمراض والأعراض، فابتغوا الضعفاءَ والمحاويج، وارزُقوهم ترزَقوا، وارحموهم تُرحَموا، فما اشتَكى فقيرٌ إلاّ من تقصيرٍ غنيّ.

أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].

بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيه مِنَ الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعونَ، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


 



[1] صحيح البخاري: كتاب التراويح (2024)، صحيح مسلم: كتاب الاعتكاف (1174).

[2] صحيح مسلم: كتاب الاعتكاف (1175).

 [3]أخرجه البخاري في الصوم، باب: من صام رمضان إيماناً واحتساباً (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3513)، وأخرجه أيضا أحمد (25384)، وابن ماجه في الدعاء (3840)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه الحاكم (1/530)، وأقره الذهبي، وصححه النووي في الأذكار (ص2487)، وهو في صحيح الترغيب (3391).

 [5]أخرجه أحمد (5/451)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2485)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيهما، باب: ما جاء في قيام الليل (1324)، وصححه الحاكم (3/14)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (6/431)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2019).

[6] أخرجه البخاري في الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[7] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء (757) من حديث جابر رضي الله عنه.

[8] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3499) عن أبي أمامة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (9936)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وهو في صحيح سنن الترمذي (2782).

[9] أخرجه البخاري في الأذان (813)، ومسلم في الصيام (1167) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بمعناه.

[10] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1403) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الخطبة الثانية

الحمد لله عَلى إحسانِه، والشّكر له على توفيقهِ وامتنانه، وأشهد أن لاَ إلهَ إلا الله وَحدَه لا شَريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأَشهَد أنّ نبيّنا محمّدًا عَبده ورَسوله، صلّى الله عليه وعلَى آله وأصحابِه، وسلّم تسليمًا مزيدًا.

أمّا بعد: فللشَّهر العظيم حرمتُه، وعلَى المسلم أن يتجنَّبَ خوارقَ صيامه وأن يحفظَ بصرَه عن النظرِ إلى المحرّمات وسمعَه عن السيئات، وأن يصونَ وقتَه عن الملهيات، فللوقتِ الباقي في هذا الشهر قيمتُه، وللزمن اليسيرِ فيه قدرُه، فيه تسكَب العبراتُ بكاءً على السيئاتِ، فكم لربِّ العزّة من عتيقٍ من النارِ، وكم من أسيرٍ للذّنوبِ وصَلَه الله بعد القطعِ وكتب له السعادةَ من بعد طول شقاء.

وعلى المرأةِ أن تتجنَّبَ عثراتِ الطريق، وأن لا تخرجَ إلى الأسواقِ إلاّ لحاجةٍ، مع التزامِها بالعَفافِ والسِّتر والحياء.

وعلى المسلم أن يقدِّم في أيّام رمضان المبارَكةِ توبةً صادِقة بعملٍ مِن الباقيات الصالحات، فما الحياةُ إلاّ أنفاسٌ معدودة وآجالٌ محدودة، والأيّام مطاياكم إلى هذهِ الآجال، فاعمَلوا وأمِّلوا وأبشِروا، فالمغبونُ مَن انصرفَ أو تشَاغلَ بغيرِ طاعةِ الله، والمحرومُ من حُرِم ليلةَ القدرِ أو أدرَك شهرَ رمضان فلم يُغفَر له، قال عليه الصلاة والسلام: ((رغِم أنفُ امرئٍ دَخل شَهرُ رمضانَ ثمّ خرج فلم يغفَر له)) رواه مسلم[1].

ثم اعلموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه فقال في محكَم التّنزيلِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللّهمّ صلّ وسلّم على نبيّنا محمّد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الراشدين...



[1] رواه أحمد (2/254)، والترمذي في الدعوات (3545) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (908)، وهو في صحيح الترغيب (1680). وليس هو عند مسلم.

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً