أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم بخير الوصايا، اتقوا الله حق التقوى.
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أنكم في بلد الله الحرام وفي أم القرى، البلد الذي حرمه الله منذ خلق السموات والأرض، البلد الذي ذكر الله فضله في كتابه في مواضع عديدة، فقال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ امِنًا وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأصْنَامَ [إبراهيم:35]، وقال تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ [الحج:29]، وقال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْقَائِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ [الحج:26]، وقال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، وقال جل جلاله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَـٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ [البقرة:127]، وقال سبحانه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ ٱلَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىء وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ [النمل:91]، وقال: إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، وقال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57]، وقال تعالى: جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَامًا لّلنَّاسِ [المائدة:97]، وقال تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4]، وقال تعالى: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلوٰةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مّنَ ٱلثَّمَرٰتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، وقال تعالى: قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، وقال تعالى: سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأقْصَى [الإسراء:1]، وقال تعالى: وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ [النحل:112].
فهذه الآيات ـ يا عباد الله ـ أنزلها الله تعالى كلها في مكة خاصة، ولم ينزلها لبلد سواها.
ثم إن ما ورد في فضائلها في حديث رسول الله وفضائل أهلها ومن جاورها أحاديث كثيرة، فمما ورد أن رسول الله حين خرج من مكة وقف على الحَزْوَرَة ـ الرابية الصغيرة ـ فقال: ((والله، إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت)) رواه الترمذي (3925) وحسنه.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مبينا حرمتها: ((إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلا مَنْ عَرَّفَهَا)) رواه البخاري (1587).
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عن فضل الصلاة فيها: ((صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ)) رواه أحمد (14847).
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عن فضل الطواف بالبيت: ((مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ)) رواه ابن ماجه (2956)، وقَالَ : ((مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أُسْبُوعًا يُحْصِيهِ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ وَكُفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَةٌ وَرُفِعَتْ لَهُ دَرَجَةٌ وَكَانَ عَدْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ)) رواه أحمد (27837).
فإذا دخل المسلم المسجد الحرام فليقصد الحجر الأسود، وهو في الركن الذي يلي باب البيت من جانب المشرق، ويسمى الركن الأسود، ويقال له وللركن اليماني: الركنان اليمانيان، ويستحب أن يستقبل الحجر الأسود بوجهه ويدنو منه، بشرط أن لا يؤذي أحدًا بالمزاحمة، فيستلمه ثم يقبله من غير صوت يظهر في القبلة، ويسجد عليه، ويكرر التقبيل والسجود عليه ثلاثًا، ثم يقول: اللهم إيمانًا بك ووفاء بعهدك وتصديقًا بكتابك وسنة نبيك، ثم يصلي على النبي .
ثم ينوي الطواف لله تعالى، ثم يمشي هكذا تلقاء وجهه طائفًا حول البيت أجمع؛ فيمر على الملتزَم وهو ما بين الحجر الأسود والباب، سمي بذلك لأن الناس يلتزمونه عند الدعاء، ثم يمر إلى الركن الثاني بعد الأسود ويسمى الركن العراقي، ثم يمر وراء الحِجْر، وهو في صوب الشام والمغرب، فيمشي حوله حتى ينتهي إلى الركن الثالث، ويقال لهذا الركن والذي قبله: الركنان الشاميان، ثم يدور حول الكعبة حتى ينتهي إلى الركن الرابع المسمى بالركن اليماني، فإذا وصل إليه ولم يكن عليه ازدحام شديد فليمسح الركن من دون تقبيل، فإن لم يستطع فليقل: الله أكبر، على جهته بدون رفع يده، هذه هي سنة نبيكم ، ثم يمر منه إلى الحجر الأسود فيصل إلى الموضع الذي بدأ منه، فيكمل له حينئذ شوط واحد، ثم يطوف كذلك حتى يكمل سبعة أشواط، وكل مرة طوفة، والسبع طواف كامل، ثم يصلى ركعتين خلف مقام إبراهيم، عملاً بقول الله تعالى: وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، فإن لم يتيسر له ذلك فليصلها في أي مكان من المسجد الحرام، وذلك في أي ساعة من ليل أو نهار، على رأي كثير من جماهير العلماء.
أيها المؤمنون، وعن فضل الحجر الأسود قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((نَزَلَ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ)) رواه الترمذي (877) وقال: "حسن صحيح"، وفي رواية: ((أنَّ مَسْحَ الركن اليماني والحجر الأسود كَفَّارَةٌ لِلْخَطَايَا)) رواه الترمذي (959) وحسنه.
ومن سنة نبيكم الدعاء عند الملتزم، وهو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة، وأن يضع الداعي وجهه على جدار البيت تذللاً لله تعالى وانكسارًا، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَ الْحَجَرِ وَالْبَابِ وَاضِعًا وَجْهَهُ عَلَى الْبَيْتِ. رواه أحمد (15122).
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمَّا جِئْنَا دُبُرَ الْكَعْبَةِ قُلْتُ: أَلا تَتَعَوَّذُ؟ قَالَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، وَأَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ هَكَذَا وَبَسَطَهُمَا بَسْطًا، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَفْعَلُهُ. رواه أبو داود (1899).
عباد الله، ومن لم يستطع أن يصلي داخل الكعبة فليصل في الحِجْر فإنه من الكعبة، فعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ فَأُصَلِّيَ فِيهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ يَدِي فَأَدْخَلَنِي فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ لِي: ((صَلِّي فِي الْحِجْرِ إِذَا أَرَدْتِ دُخُولَ الْبَيْتِ، فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَكِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ)) رواه أحمد (24095). ومن دخل الحِجْر فليدع تحت ميزاب الكعبة، فإنه من مواطن إجابة الدعاء، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: صلوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار، قيل لابن عباس: ما مصلى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب، قيل: وما شراب الأبرار؟ قال: ماء زمزم.
ومن تيسر له دخول الكعبة فليقتد برسول الله عندما دخلها؛ فليصل ما شاء من النوافل في قبالة بابها أي بأن يجعل ظهره إلى الباب، ووجهه إلى جدار الركن اليماني، ويقف مقدار ما يسعه لسجوده، وبهذا يكون قد وقف في مقام رسول الله الذي صلى فيه؛ وهذا التحديد بالتقريب قد ورد في حديث متفق عليه، وليستغفر في أركانها ويحمد الله ويدعوه بخيرات الدنيا والآخرة، فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَرَسُولُ اللَّهِ الْبَيْتَ، فَأَمَرَ بلالاً فَأَجَافَ الْبَابَ ـ ردَّه ـ وَالْبَيْتُ إِذْ ذَاكَ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، فَمَضَى حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ الأُسْطُوَانَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ بَابَ الْكَعْبَةِ جَلَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ وَاسْتَغْفَرَهُ، ثُمَّ قَامَ حَتَّى أَتَى مَا اسْتَقْبَلَ مِنْ دُبُرِ الْكَعْبَةِ، فَوَضَعَ وَجْهَهُ وَخَدَّهُ عَلَيْهِ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ وَاسْتَغْفَرَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى كُلِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْكَعْبَةِ فَاسْتَقْبَلَهُ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالْمَسْأَلَةِ وَالاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ وَجْهِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: ((هَذِهِ الْقِبْلَةُ هَذِهِ الْقِبْلَةُ)) رواه النسائي (2914). وفي روايات أخرى ذكرها الطحاوى في شرح معاني الآثار أنه صلى في البيت.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لّلْعَـٰلَمِينَ فِيهِ ءايَـٰتٌ بَيّـنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِنًا [آل عمران:96، 97].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
|