أما بعد: فإن حادثة الإسراء والمعراج اشتملت على كثير من الفوائد والعبر، وهذه بعضها:
1- لما كان بيت المقدس مُهَاجَر كثير من أنبياء الله تعالى كان الإسراء بنبينا إليه؛ ليجمع له بين أشتات الفضائل. ومن حكم ذلك أن يعلم أن هذه الأمة المحمدية أولى بهذا البيت من غيرهم، ولكن بسبب إعراضنا عن شرع ربنا ضاع بيت المقدس منّا.
وإن من البشارات النبوية التي يحسن التنويه إليها هنا قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغَرْقَد؛ فإنه من شجر اليهود)) أخرجه البخاري ومسلم.
2- كان الذهاب بالنبي إلى بيت المقدس ليلاً؛ لأنه زمن يأنس فيه المسلم بالله، منقطعًا عن الدنيا وشواغلها.
3- لما ذكر الله تعالى الإسراء نعت النبي بالعبودية فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]. ومن تأمل القرآن الكريم يجد أن الله تعالى نعت نبيه بنعت العبودية في أسمى أحواله وأرفع مقاماته، ففي مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، ولما ذكر إنزال الكتاب عليه قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا [الكهف:1]، وقال مخبرًا عن الوحي إليه: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، وقال عن جميع المرسلين: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ [الصافات:171، 172]. فالعزّ كل العزّ في أن تكون عبدًا لله تعالى.
4- اختلف العلماء في تأريخ الإسراء والمعراج اختلافًا عظيمًا، فذكر الإمام القرطبي المالكي رحمه الله في التفسير خمسة أقوال، وذكر السيوطي رحمه الله لذلك خمسة عشر قولاً. وهذه فائدة تتفرّع عنها الفائدة التالية:
5- أنه لا يشرع للإنسان أن يخص ليلة المعراج بقيام من بين الليالي، ولا نهارها بصيام من بين الأيام؛ إذ لو كان ذلك من الشرع في شيء لما اختُلِف في تحديدها هذا الاختلاف، إذ كيف تُشرَع عبادة في ليلة لا نص في تحديدها ألبتة، وإنما هي أقوال دون إثباتها خَرْطُ القَتَاد. قال ابن رجب الحنبلي: "و أما الإسراء فقيل: كان في رجب، و ضعّفه غير واحد".
ولا يستشكلنّ أحد أن ليلة القدر لم تُحدَّد؛ لأنها في وتر العشر الأواخر من رمضان كما دلت عليه النصوص الصحيحة، وأما الليلة الموافقة لليلة الإسراء والمعراج فلا يصح في تحديدها إلا قول من قال: هي في إحدى ليالي العام. وإذا كان الأمر كذلك فهل يمكن أن يرتب الشرع عبادة عليها؟!
ثم إنه ينبغي أن نفرق بين فعل العبادة وبين تخصيصها بزمان أو مكان، فالذي اعتاد أن يصوم صومًا لو وافق صومه ليلة المعراج ـ لو فرضنا أن تأريخها معلوم ـ فله أن يصومها، لا لكونها ليلة المعراج، وإنما لكون صومه وافق ذلك، وهكذا قل في شأن القيام. أما أن يخص الإنسان ليلة أو يومًا بقيام أو صيام لم يدل الشرع على تخصيصها فهذا مما لا يُشرَع.
ومن الأدلة على التفريق بين فعل العبادة وبين تخصيصها بزمان أو مكان قول النبي : ((لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) أخرجه مسلم. فالنبي لا ينهى عن عبادة الصيام والقيام، وإنما ينهى عن تخصيص العبادة بيوم لم يشهد له الشرع باعتبار، ونحن لا ننهى عن الصيام والقيام، وإنما ننهى عن تخصيص ليلة السابع والعشرين من شهر رجب بذلك.
6- من الواجب اعتقاده أن الإسراء والمعراج كان بجسد النبي وروحه، لا بروحه فقط؛ لما يلي:
ـ لأن هذا هو الذي يتماشى مع ظاهر النصوص، وليس من دليل يصرف هذه النصوص عن ظاهرها.
ـ ركوبه للبُرَاق، وهي دابة فوق الحمار ودون البغل. ولو كان الإسراء بروحه لم يكن من حاجة للركوب.
ـ قوله تعالى: أَسْرَى بِعَبْدِهِ، فلو كان الإسراء بروحه لقال: روح عبده.
ـ لو كان بروحه لما كذبته قريش؛ فإن عقولهم لا تنكر أن الأرواح قد تجوب الآفاق في لحظة.
ـ قول الله تعالى: وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان:54].
7- أن أفضل الأنبياء نبينا ؛ لأنه تقدم عليهم وصلّى بهم، وبلغ في المعراج مبلغًا لم يبلغه أحد منهم. وهذا مما لا ينازع فيه أحد.
8- بعض الناس ـ هداهم الله ـ يحتفلون بليلة الإسراء والمعراج، وقد اصطلحوا على أنها ليلة السابع والعشرين من رجب! وفي تقديري أنه لو كان لا بد من إبداء المشاعر لكان إبداء مشاعر الحزن أولى من إظهار الابتهاج والفرح؛ ذلك لأن النبي أسري به إلى بيت المقدس، فأين بيت المقدس الآن؟!
ثم إنا نستسمح المحتفلين أن نسأل سؤالاً: هل احتفل النبي وأصحابه بهذه الليلة؟ فإن قالوا: نعم قلنا: هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، وإن قالوا: لا قلنا: ((أحسن الهدي هدي محمد )) أخرجه البخاري. فليسعنا ما وسع رسول الله وأصحابه.
9- لقي النبي في السماء الأولى: آدم، وفي الثانية: عيسى ويحيى، وفي الثالثة: يوسف، وفي الرابعة: إدريس، وفي الخامسة: هارون، وفي السادسة: موسى، وفي السابعة: إبراهيم عليهم صلوات الله وتسليماته.
والحكمة في اختيار هؤلاء الأنبياء ـ والله أعلم ـ أنه بمقابلة آدم عليه السلام يتذكر أنه أُخرِج من موطنه وعاد إليه، فيتسلّى بذلك إذا أخرجه قومه من موطنه. وأما عيسى ويحيى عليهما السلام فلِما لاقاه من شدة عداوة اليهود، وهذا أمر سيلقاه النبي في مدينته. وأما يوسف فلِما أصابه من ظلم إخوته له، فصبر عليهم، وقد طرد أهل مكة النبي ، وأرادوا قتله. وأما إدريس فلرِفْعة مكانه التي تَشْحَذ الهمة لنيل أعلى الدرجات عند رب السماوات. وأما هارون فلأن قومه عادوه، ثم عادوا لمحبته. وأما موسى فلشدة ما أوذي به من قومه، حتى إن نبينا قال في ذلك: ((يرحم الله أخي موسى؛ قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) أخرجه البخاري ومسلم. وفي ملاقاة إبراهيم عليه السلام في آخر السماوات مُسنِدًا ظهره للبيت المعمور إشعار بأنه سيختم عمره الشريف بحج البيت العتيق.
10- أن الهداية بيد الله، وأن من حجبها الله عنه فلن تجد له هاديًا ونصيرًا، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لقد رأيتني في الحِجْر وقريش تسألني عن مَسْرَاي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به)) أخرجه مسلم. ومع ذلك كذّبوه وسفّهوا كلامه، بل ارتد بعض ضعاف الإيمان.
11- وفي قصة المعراج أن جبريل كان يستفتح أبواب السماء، فيقال له: من؟ فيقول: جبريل. ففيه دليل على أن المستأذن إذا قيل له: من؟ سمى نفسه بما يعرَف به، ولا يقول: أنا، وجاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتيت النبي في دَيْن كان على أبي فدققت الباب، فقال: ((من ذا؟)) فقلت: أنا، فقال: ((أنا أنا!)) كأنه كرهها. أخرجه البخاري ومسلم.
12- وجد النبي أبواب السماء مغلقة وكانت تفتح لهما، وفي هذا من الإكرام له ما لا يخفى؛ لأنه لو رآها مفتحة لظن أنها كذلك.
13- حديث المعراج دليل من مئات الأدلة التي تدل على علو الله تعالى على جميع مخلوقاته؛ فقد رأى النبي حجابه بعد السماء السابعة.
14- وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ [المدثر:31]، فقد أخبر النبي بأن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه. فعدد ملائكة الرحمن لا يحيط به إلا هو سبحانه.
15- قبح الغيبة وبيان عاقبة أهلها، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((لما عُرِج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يَخْمِشُون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)) أخرجه أبو داود.
16- ومن دروس المعراج إثبات عذاب البرزخ للحديث السالف. وفي بعض طرق قصة المعراج ذكر لبعض المعذبين، إلا أن علماءنا طعنوا فيها؛ ولذا أعرضت عنها.
17- الحادثة بجملتها فيها تسلية للنبي بعدما امتلأت جوانب حياته بسحائب الكآبة والأحزان، فكانت هذه الحادثة التي اضمحلّت أمامها تلال الغموم الناتجة من ازدراء قومه له وتكذيبه. إن المرء إذا أراد أن يقنع الناس بمبدأ معين وتصدى أهله وعشيرته لتكذيبه والنيل منه بسبب ذلك واجه من الأحزان قدرًا لا يحيط به إلا الله تعالى؛ لأن باقي الناس ممن ليسوا بأهله أولى بتكذيبه واستهجان طرحه.
وظلم ذوي القُرْبَـى أشدُّ مَضَاضَةً على الْمرء من وَقْعِ الْحُسَامِ المُهَنَّدِ
ومن هذا يستفاد أن مع العسر يسرًا، وأن من الضيق فرجًا، وبالشدة رخاءً.
18- مكانة الصلاة في دين الإسلام، فإن الله اختصها بأن فرضها على نبيه بلا واسطة.
19- أكثر أمة يدخلون الجنة الأمة المحمدية، فإن النبي لما أراد مفارقة موسى عليه السلام إلى السماء السابعة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي. أخرجه البخاري ومسلم.
20- بركة النصح للمسلمين؛ فإنه بسبب نصح موسى لنبينا خفف الله عنه الصلاة المفروضة إلى خمس صلوات.
21- أن الله تعالى كلم نبينا كما كلم موسى عليه السلام، والذي يقف على الخصائص المحمدية على صاحبها أزكى صلاة وأتم سلام يعلم أن الله أكرمه بالآيات التي أُكرِم بها كثير من الأنبياء قبله، وزاده خصائص لم يُعطها أحد قبله.
22- عظيم رحمة ربنا بنا، قال تعالى: يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28].
23- الاستحياء من الله هدي نبوي كريم، فإن نبينا قال لموسى عليه السلام لما طلب منه الرجوع بعدما صارت الصلاة خمس مرات: ((إني قد استحييت من ربي)). وقد أمر بذلك النبي بقوله: ((استحيوا من الله حق الحياء))، قالوا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله.، قال: ((ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا. فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) أخرجه الترمذي وحسنه الألباني.
24، 25- خطورة الشرك، وعظيم فضل أواخر سورة البقرة، فعن عبد الله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها. قال: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى قال: فَرَاش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله ثلاثًا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المُقْحِمَات. أخرجه مسلم.
26- أن رسولنا لم ير ربه بعينه، وإنما رآه بفؤاده؛ لقول أبي ذر : سألت رسول الله : هل رأيت ربك؟ قال: ((نور أنى أراه)) أخرجه مسلم، ولقول أمنا عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرْيَة. أخرجه مسلم.
27- فضل أبي بكر الصديق الذي لم يخالج قلبه شك في صدق خبر النبي ، بل سارع إلى التصديق لما أخبرته قريش بخبر الإسراء بقوله: إن كان قالها فقد صدق، فرضي الله عنه وأرضاه.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] الجامع لأحكام القرآن (10/210).
[2] انظر كتابه: الآية الكبرى في شرح قصة الإسرا، طبعة دار الحديث بالقاهرة (60-62).
[3] لطائف المعارف (1/101).
[5] قال النووي رحمه الله: "كذا هو في جميع الأصول: السادسة. وقد تقدم في الروايات الأخر من حديث أنس أنها فوق السماء السابعة. قال القاضي: كونها في السابعة هو الأصح، وقول الأكثرين، وهو الذي يقتضيه المعنى وتسميتها بالمنتهى. قلت: ويمكن أن يُجمع بينهما فيكون أصلها في السادسة ومعظمها في السابعة " شرح صحيح مسلم (3/2). |