أما بعد: اتقوا الله عباد الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، والتقوى حكمة الصوم العظمى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
فالبدار البدار بالأعمال قبل مفاجأة الآجال، فهناك لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
عباد الله، في هذه الأيام يعيش الناس أيامًا دراسية جادة على مقاعد التعليم والتربية والتدريب، فيها يُصنع الإنسان صناعة جديدة، تخرجه عن ذات نفسه وتكسر الجمود الذي ألفه وتعوده، فإذا هو شخص جديد لا يعبد شهوته ولا يلهث لإشباع غريزته، وإنما يرتقي بنفسه ويسمو بروحه ويعلو بهمته لمعانقة العلا والترفع عن الردى.
رمضان مدرسة ودار للتعليم والمعرفة، نفحات إيمانية وشذرات قرآنية. رمضان جامعة وكليات يانعة، معهد دراسات وإعداد للنفوس والطاقات، برامج للدعاة وأخرى للطائعين والعصاة، إعداد للنفوس وتهيئة لعبادة الملك القدوس.
أتـى رمضـان مدرسة العباد لتطهير القلوب من الفساد
فـأدّ حقوقـه قولاً وفعـلاً وزادك فـاتخذه للميعـاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها تأوه نـادمًا يـوم الحصاد
فلتقطف بعض الدروس من هذه المدرسة، فمنها:
الدرس الأول: إعداد النفوس؛ إذا كان الجهاد فيه انتصار على العدو فإن الصيام انتصار على النفس، وترويض لها لتتصل بخالقها وتقدم أمره على هواها، فالصائم ترك شهوته لله بالنهار تقربًا إلى الله وطاعة، ثم يبادر إليها في الليل تقربًا إلى الله وطاعة، فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر ربه، فهو مطيع لربه في الحالين مرددًا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
الدرس الثاني: الانتصار على الهوى؛ ها هو العبد يخلو لوحده مع شدة ظمئه وجوعه وعنده ما لذ وطاب من الطعام والشراب، ونفسه تأمره بأن يروي ذلك الظمأ ويسد ذلك الجوع، وهواه يدفعه للعصيان إلا أنه يمتنع خوفًا من العزيز الجبار، أليس في ذلك انتصار على الهوى وتحقيق لمراتب العلا؟! إن من يمتنع عن شهواته ولذاته في وقت لا يطلع عليه إلا خالقه امتثالاً لأمره وخضوعًا لحكمه مع شدة صراع الشهوات في قلبه لَيَنتج لديه ملكة المراقبة لباريه وتعظيم ربه وقدره حق قدره، وهذه هي أعلى مراتب الدين وهي مرتبة الإحسان؛ أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وبهذا يدرك المسلم الذي طالما شكا من تسلط هواه أن الهوى سهل صرعه وطرحه متى ما أذعن العبد لربه واستعان بخالقه على قهره، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41].
الدرس الثالث: رمضان مدرسة الإخلاص؛ فالصيام عبادة سرية ليس لها مظهر خارجي، إذ بإمكان العبد أن يأكل ويشرب ثم يخرج للناس ويقول: إني صائم، لكنه يمتنع، لماذا؟ إنه سِرُّ التقوى ومراقبة المولى وتحقيق لحكمة الصوم الكبرى، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. ولذا خصّه الله لنفسه من دون سائر الأعمال، فقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: ((الصوم لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)). إنها فرصة لتعويد النفس على الإخلاص والتوجه إلى الله وحده، فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
الدرس الرابع: دعوة للائتلاف؛ إن رمضان دعوة للائتلاف وعدم التفرق والاختلاف، ألا ترى المسلمين وهم يصومون في شهر معين من العام، وفي قدر محدود من الأيام، وسبب واحد هو رؤية الهلال مع تعدد بلدانهم وأوطانهم واختلاف لغاتهم ومغايرة ألوانهم؟! ثم انظر ـ يا رعاك الله ـ كيف يمسكون مع طلوع الفجر ويفطرون عند مغيب الشمس، لا يتقدم أحدهم على أحد ولا يتأخر، يساوي فقيرهم غنيهم وكبيرهم صغيرهم وحاكمهم محكومهم، إنها دعوة للوحدة والاتحاد بين المسلمين، أخذا بكلام رب العالمين: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52]، وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
الدرس الخامس: المحافظة على الوقت والحرص على اغتنامه؛ هل من أفطر قبل مغيب الشمس بدقيقة يصح صومه؟ الجواب: لا يصح صومه ولو كان الفارق دقيقة واحدة، فإذا كان للدقيقة هذا الأثر الكبير في حياة المسلم فكيف بالساعة وأختها؟! إنه دين يحث على اغتنام الأوقات والاستفادة منها، فكم تضيع علينا من دقائق بل ساعات من غير فائدة، ناهيك عن تضييع البعض للساعات الطوال أمام الملهيات والمحرمات.
الدرس السادس: الصبر؛ رمضان تجربة للنفوس لتكون على استعداد لتحمل المشاق والقيام بالمهام الجسام، من جهاد وبذل وتضحية وإقدام، ولذلك لما أراد طالوت أن يقاتل أعداءه ابتلى الله قومه بنهر، قال لهم طالوت: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249]، فنجح أهل الصوم والصبر وتخلف عبدة الشهوات. فالصوم تجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن ما حرم الله، وصبر على ما يحصل للصائم من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة:120].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم. |