أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن الله عز وجل قد أمركم بالتقوى فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ [النساء:1]، فاستجيبوا لأمره جل وعلا واتقوه في جميع أحوالكم تنالوا مطلوبكم في الدنيا والآخرة، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].
معاشر المسلمين، تدرك الأمم جميعها أهمية العلم، ولذلك لا تجد دولة من الدول إلا وهي تتيح التعليم لأبنائها، وتجعل له وزارة خاصة، وتخصص له ميزانية مستقلة، وإن كانت غاية كل دولة من التعليم تختلف من دولة إلى أخرى بحسب معتقدها وتصورها للحياة، فإن كانت دولة تؤمن بالله واليوم الآخر إيمانًا صحيحًا فإنها تجعل للعلم الذي يصل المتعلمين بالله رب العالمين وينفع صاحبه في الدار الآخر فوزًا برضوان الله تعالى وجنته، تجعل لهذا العلم وهو العلم بالدين نصيبًا وافرًا في مناهجها التعليمية، ولهذا قام التعليم في هذه البلاد على الرفع من شأن العلم الشرعي الديني، وتخصيص كل فرع من فروعه بمادة مستقلة انطلاقًا من سياستها التعليمية المحكمة التي تنص على أن غاية التعليم فهم الإسلام فهمًا صحيحًا متكاملاً، وغرس العقيدة الإسلامية ونشرها، وتزويد الطالب بالقيم والتعاليم الإسلامية وبالمثل العليا، وإكسابه المعارف والمهارات المختلفة، وتنمية الاتجاهات السلوكية البناءة، وتطوير المجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، وتهيئة الفرد ليكون عضوًا نافعًا في بناء مجتمعه.
أما إذا كانت الدولة دولة كافرة أو دولة علمانية تجعل الدين شأنًا شخصًا وترتكز سياستها التعليمية على عمارة الدنيا فحسب وتنظيمِ علاقة الناس بعضهم ببعض دون اهتمام بعلاقتهم بخالقهم ورازقهم ومدبر شؤونهم كفرًا بنعمة الله وجحودًا لحقه عليهم، فإنها لا تقيم للدين والعلم الشرعي وزنًا، أو تقصره على الأخلاق والآداب والسلوك، دون أحكام الاعتقاد وأحكام العبادات والمعاملات وغيرها، ولذلك فإن من الجهل الدعوة إلى تقليص العلوم الشرعية أو قصرها على جانب من الدين وإهمال الجوانب الأخرى التي هي أكثر أهمية بشهادة أهل العلم بالله وشريعته.
أيها المؤمنون، إن من علامة صحوة الأمة الإسلامية ومن الدلالة على وعيها وإدراكها لمصدر عزتها العناية بالعلم الشرعي من قبل المسؤولين فيها؛ وذلك بدعمه والتشجيع على تعلمه وإكرام أهله وإعطائه الوزن المناسب في خططها الدراسية، وهو ما عليه الحال في هذه الدولة المباركة إن شاء الله، ونسأل الله عز وجل أن يثبتنا عليه، وأن يبصر القائمين على التعليم بأهميته والتمسك به، وأن يرد كيد الكائدين من المغرضين أو الجاهلين في نحورهم. ومن علامة صحوة الأمة أيضًا العناية بالعلم الشرعي من قبل أفرادها، وذلك بالتوجه إليه والحرص عليه حفظًا وفهمًا وتطبيقًا.
أيها الإخوة، يدرس الطلاب في مدارسهم نوعين من العلوم: علومًا شرعية وما يرتبط بها من علوم اللغة العربية، وعلومًا دنيوية.
أما العلم الشرعي فهو العلم الذي جاءت الأدلة الشرعية المتكاثرة في بيان فضله وفضل تعلمه وعلو منزلته ورفعة شأن حملته في الدنيا والآخرة، يقول الحق جل وعلا: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، ويقول تعالى: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]، ويقول المصطفى : ((من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وأورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) صححه ابن حبان.
وإن الواجب على عموم المتعلمين الذي يدرسون العلوم الشرعية من بين المواد التي يدرسونها أمور منها:
أولاً: الإخلاص لله تعالى في تعلم هذه العلوم، وذلك لإدراك فضيلة تعلم العلم الشرعي وما أعده الله تعالى من الأجر لمن تعلمه، فإن من تعلم هذا العلم بلا نية كان حظه التعب ولا نصيب له من الأجر، بل إنه متعرض للعقوبة إن كان إنما يتعلمه للدنيا، يقول : ((من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) يعني ريحها. صححه الحاكم وابن حبان.
وليعلم أن الإخلاص في تعلم هذه العلوم لا يفوت غرضًا من أغراض الدنيا، ولكن الموفق من وفقه الله.
ثانيًا: الحرص على تعلم هذه العلوم، فإن فيها بيانًا لما يجب على المسلم من حقوق الله تعالى وحقوق عباده، وإنه من الشرف للمسلم ـ ومما هو محل للغبطة ـ أن يكون المسلم على بصيرة من دينه؛ وذلك لحاجته إليه في جميع أحواله، ولذلك يقول : ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) متفق عليه.
ثالثًا: تطبيق ما تعلمه الطالب من هذه العلوم، فإن ثمرة العلم العمل.
وإنه يلحظ في هذا الجانب قصور كثير من الطلاب، فإنك ترى بعض الطلاب لا يحسن أداء الصلاة رغم تكرر تعليمها له، فلا يأتي بأركانها وواجباتها على الوجه المطلوب، وقد لا يأتي بالأذكار والأدعية المشروعة فيها، وربما صلى بعض الطلاب بلا وضوء، وإنك ترى كثيرًا من الطلاب يأتون منكرًا من الأمور في أقوالهم وأفعالهم وهيئاتهم، ومنهم الذين يؤذون المؤمنين في أنفسهم ومحارمهم، إلى غير ذلك من التصرفات التي يتعلمون في مدارسهم ما يحملهم على تركها لو كانوا يعملون بما يعلمون.
وفي هذا الخصوص تتعين الوصية إلى المعلمين وأولياء الأمور بتربية الطلاب على العمل بالعلم، وترغيبهم في ذلك، ومتابعتهم وتشجيعهم على ذلك بالكلمة الطيبة والجائزة والهدية، وتذكيرهم بما تعلموه، وأن الحجة قائمة عليهم بعد أن من الله عليهم بالعلم.
وإن مما ينبغي التنبيه عليه في هذا الشأن أن التقصير الذي يلحظ على الطلاب وضعف تطبيقهم لما تعلموه ليس مسؤولية المناهج وحدها، بل الكفل الأعظم والنصيب الأوفى في ذلك يعود إلى أسباب كثيرة، من أخطرها وأشدها وأسرعها تأثيرًا وسائل الإعلام المختلفة، ولا سيما القنوات الفضائية الهابطة، فضلاً عن تأثير الأصدقاء والأقارب ودعاة السوء، ولذلك فإن من الظلم البين والاصطياد في الماء العكر الدعوة إلى تغيير المناهج الشرعية بدعوى أنها لا تحدث التأثير المطلوب.
أيها الإخوة، أما النوع الثاني من العلوم وهي العلوم الدنيوية فإن تعلمها أمر مطلوب شرعًا إذا كانت الأمة بحاجة لها وكان تعملها ينتج ثمرة ملموسة، بل إن تعلمها في هذه الحالة من فروض الكفايات التي يؤجر المسلم إذا تعلمها بنية أداء هذا الفرض؛ لأنه أمر واجب شرعًا وجوبًا كفائيًا، بمعنى أنه إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين، ولذلك لا يجب على كل الناس أن يتعلموا هذه العلوم، بل يكفي أن يتوجه إليها من تقوم به الكفاية، لا أن تشغل بها الأمة جميعها رجالها ونساؤها.
وعلى كل فينبغي أن تستحضر النية الصالحة في تعلم هذه العلوم، بأن ينوي المسلم بتعلمها نصرةَ الدين وتقديمَ النفع للناس والتعرفَ على آيات الله في الكون والنفس وإغناءَ الأمة عن الحاجة إلى أعدائها.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
|