أما بعد:
أيها المسلمون: فاتقوا الله وراقبوه، وتأملوا في حقيقة دينكم، واعبدوا الله على بصيرة، فلم يعد هناك فرصة للجهل أو للتقليد في أحكام الدين.
إخوة الإسلام: والمتأمل في فريضة الحج في أعماق الزمن يرى عجبا ويزداد إيمانا، ويحس بترابط الأديان، والصلة بين الأنبياء والمرسلين، على الرغم من تباعد الأزمان واختلاف الأقوام والأوطان، ويحس كذلك بأن العبادة لله عميقة الجذور قديمة قدم التاريخ والإنسان.
وفريضة الحج – التي تقترب أيامه ونعيش الآن في أحد شهوره – نموذج لهذا العمق وذلك الترابط، فما هو تاريخ الحج؟ وكيف بدأت فرضيته؟ وما هي أدله وجوبه، وما الشروط المعتبرة للوجوب؟
تبدأ رحلة في أعماق الزمن منذ ضاقت الحياة بإبراهيم عليه السلام مع قومه الوثنيين الجاحدين في العراق، فرحل منها إلى فلسطين، ومعه زوجته سارة وابن أخيه لوط – عليهم السلام–كما قال تعالي: فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم [العنكبوت:26].
وأقام الخليل عليه السلام في فلسطين، ثم رحل إلى مصر وأقام فيها ما شاء الله له أن يقيم، ووقعت له هناك قصة الابتلاء لزوجته سارة من قبل ظالم مصر، الذى حالت قدرة الله دون الاعتداء على المؤمنة العفيفة، وكان ذلك سببا في إهدائها جارية لخدمتها، ألا وهي (هاجر) لتبدأ قصة أخرى أكثر صلة بالحج، وبناء البيت العتيق.
حيث رجع إبراهيم – عليه السلام – مرة أخرى إلى فلسطين، وكانت زوجته سارة عاقرا لا تلد، فأشارت على زوجها إبراهيم بالزواج من جاريتها (هاجر) لعل الله أن يهبه منها ولدا، فكان، وولدت (هاجر) إسماعيل عليه السلام، كما شاء الله أن تلد (سارة) إسحاق عليه السلام.
ومع البقاء، وطبيعية النساء غارت سارة من هاجر ولم تطق رؤيتها، وصارحت إبراهيم بما تجد في نفسها، فكان ذلك سببا في هجرته بهاجر وإسماعيل إلى مكة.
وهناك في أرض لا زرع فيها ولا ماء، ولا أنيس ولا جليس ترك إبراهيم المرأة وطفلها، وهمّ بالعودة إلى فلسطين مرة أخرى، فتعلقت به الأم (هاجر) وهي تقول: إلى من تكلنا ونحن في هذا الوادي المقفر الموحش؟ فقال النبي الخليل عليه السلام: إلى الله، واستوحت المرأة أن ذلك بأمر الله، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذا لا يضيعنا..
وانصـرف الخليل عليه السلام وصوت دعائه يجلجل في السماء: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون [إبراهيم:37].
واستجاب الله دعاء خليله عليه السلام، بعد أن عاشت هاجر وابنها إسماعيل لحظات عصبية أوشك الرضيع فيها على الهلاك، وكادت الوحشة وقلة الطعام والشراب أن تودي بالمرأة وطفلها لولا فضل الله ورحمته.
وهل يخيب من رجاه، وهل يضيع من تولاه .
ومن هذه اللحظات الحرجة تبدأ قصة بناء البيت، وقصة سعي الناس بين الصفا والمروة كلما حجوا أو اعتمروا، وكلما طوفوا بالبيت العتيق .
ومن هنا كذلك تبدأ قصة زمزم، ذلك الماء العذب الزلال والبلسم الشافي للأسقام بإذن الله.
وإليكم هذه القصة بتمامها- كما أخرجها البخاري في صحيحه- وهى قصة جديرة بالاهتمام، وجديرة بالتذكر، كلما سعي الناس بين الصفا والمروة، كلما شربوا من زمزم، حتى لا تكون المشاعر مجردة من الفقه والإيمان، حتى لا يكون الحج مجرد طقوس يقلد الأحفاد فيها الأجداد، دون علم أو بصيرة أو هدى.
عن سعيد بن جبير، قال ابن عباس: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً لتعفي أثرها عن سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها –وهى ترضعه- حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعها هناك، ووضع جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقاً، فتتبعته أم إسماعيل فقالت هناك: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بذلك؟ قال نعم قالت: إذن لا يضيعنا.
ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لايرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه وقال: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون [إبراهيم :37].
وجعلت أم إسماعيل ترضع وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ماء السقاة عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت بالصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحد، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحد، فلم ترى أحد، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلذلك سعى الناس بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه- تريد نفسها- ثم تسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غوث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحثت بحقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً)).
قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم-أو أهل بيت من جرهم- مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائر عانقاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه بماء، فأرسلوا جرياً أو جرين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا- قال: وأم إسماعيل عند الماء- وقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد أن تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج ولم يبتغ لنا، ثم سألها عن العيش وهيئتهم، فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه.
قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال: هل جاءكم أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فاخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة.
قال فهل أوصاك بشيء. قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيّر عتبة بابك قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، إلحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاه بعد، فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، فقال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه .
قال: اذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء اسماعيل عليه السلام، قال هل أتاكم من أحد؟ قالت نعم، أتانا شيخ حسن الهيئةـ وأثنت عليه ـ فسألني عنك فخبرته، فسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك.
قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد.
ثم قال: يا إسماعيل: إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك.
قال فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتا ـ وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها ـ قال: فعند ذلك رفعاً القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وابراهيم يبني، حتى اذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم [البقرة:127].
|