أمّا بعد، فاتقوا الله عبادَ الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282].
أيّها المسلمون، لا يشكّ أحدٌ ولا يتمارَى أنَّ مقامَ العلم وأهله مقامٌ لا يجَارى، وميدانَهم مَيدان سَبقٍ لا يُبَارى، وهل بنِيَت الأمجاد وشيِّدَت الحضارات عبر التأريخِ إلاّ على دعائِمِه وركائزه؟! وهل أمّةٌ سادت بغيرِ التعلُّمِ؟! إذ العِلمُ أشرف مطلوب وأجلّ مرغوب وأعظَم موهوب. العِلمُ منبَع الفوائِد ومعقِل الفَرائِد ومجمَع الشّوارد. العِلم شرَف الدهر ومجدُ العصر ووِسام الفخر وتاجُ الشرف لكلِّ قطر، وهو فَخار الزّمان وإكسيرُ الأمن والأمان وضمانةُ السَّعادةِ والاطمِئنان.
العِلم كَنز وذخر لا نفادَ له نِعمَ القرينُ إذا ما صاحِبٌ صَحِبا
وأبلَغ من ذلك وأعزُّ قول المولى جلّ وعزّ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
معاشرَ المسلمين، وإذا كان العالم اليومَ يتنادَى عبر هيئاتِه العالميّة ومنظّماته الدوليّة للإصلاح والتنميَة ومكافحة الجهلِ والفقر والتخلُّف والإرهاب فإنّه واجِدٌ في العلم النّافِع المبنيِّ على الإيمان الرّاسخ ضالّتَه المنشودَة، وفي إيجاد جيلٍ متسلِّحٍ بالعلوم والمعارِف جوهرتَه المفقودة.
ولعلَّ حديثَ المناسبة يحلو ونحن نَعيش مع أبنائِنا الطلابِ وفتياتِنا الطّالبات إشراقةَ عامٍ دراسيّ جديد وإطلالَةَ موسِمٍ متألِّق في العِلم والمعرفةِ والتحصيل، ترتسِم على محيَّاه بسَمَاتُ الأمل الخلاَّبة وإشراقاتُ الفألِ الجذّابة في هممٍ وثَّابة وحُلَل من الجلالِ والجمالِ والمهابَة؛ لتحقيق مستقبَلٍ أفضلَ بإذن الله، لدفع عجَلَة تقدُّمِ المجتَمع ونهضةِ الأمّة، وما ذلك على الله بعزيز.
إِخوةَ الإيمان، حَجَر الزاوية وقُطب الرّحَى في العمليّة التعليمية والتربويّة فئةٌ عزيزة على نفوسِنا غالِية في قلوبِنا، فِئة لها مكانتُها السّامِيَة ومنزلتُها السّامِقة في الدّين والمجتَمَع والأمّة، فِئة جديرَة بالاحترام والتّكريم والتقدير وحفيَّةٌ بالاهتِمام والإجلال والتوقير، حقيقةٌ بالعناية والرّعاية والتبجيل؛ لأنها في الأمّة بمنزلة الغرَّةِ والتّحجيل، كيف وقد جَاء التنويهُ بذِكرها في محكم التنزيل؟! ولا غروَ فلها في مجالها القِدحُ المعلَّى والدّور المجلَّى، كيف وهي للعقولِ بُناة وللفهومِ شُداة وفي الخَير سعاةٌ، للعلم قادَةٌ وللتّربية شادَة وللمعرِفة رَادَة وللتحصيل سادَة. وأجزم ـ يا رعاكم الله ـ أنّكم أدركتم بعد هذا النّعتِ الفريد المعنى المرادَ وبيتَ القصيد، إنها فِئة البَذل والعطاء والمكرُمات من المعلِّمين والمعلمات والمربِّين والمربّيات.
إخوةَ الإسلام، المعلّمون هم النّجوم السّاطعة والكواكب اللامعةُ في سماء العلومِ والمعارف النّافعة، هم المصابيح المتلألِئة والشموع الوضّاءة التي تحترِق لتضيء الطريقَ للأجيال الصاعِدة والناشئة الواعدةِ، هم حمَلة مشكاة النبوّة والمؤتَمَنون على ميراثِ الرسالة في التعليم والتربية، كادَ المعلِّم أن يكون رسولاً. أرأيتَ أعظمَ أو أجلَّ منَ الذي يبني وينشِئ أنفسًا وعقولاً؟!
فيا أيّها الإخوة المعلِّمون، يا من شرفتم بأعظمِ مهمّة وأشرف وظيفةٍ، هنيئًا لكم شرَفُ الرّسالة ونُبل المهمّة، فمهما عانَيتم وقاسَيتم ومهما جارَ البعض عليكم وهمَّش رسالتَكم المتألِّقة وقلَّل هيبتَكم المتأصِّلة وغمَطَكم حقَّكم الأدبيَّ والمعنويّ، ومهما أغفل أحدٌ دورَكم الرّائد ومهمَّتَكم المشرَّفة لا سيّما في عصرِ الثورةِ التقانيّة والقنوات الفضائيّة والشبَكات المعلوماتية، مع ذلك كلّه فستظلّون ـ زُملائي المدرّسين ـ المنهلَ العَذب الذي تستقِي منه الأجيالُ والنورَ المتوهّج الذي تسير الأمّةُ بهداه إلى مواطنِ العزّ والنصر والفَخار والرفعة.
ومهما نطَق اللّسان وسطّر البيان فسيظلّ عاجزًا أن يوفِيَّكم قدرَكم وينصِفكم حقَّكم، ويكفيكم ثناءُ ربِّكم جلّ وعلا ومدحُ نبيِّكم ، أخرج الترمذيّ وغيره أنّ رسول الله قال: ((إنَّ الله وملائكته وأهلَ السموات وأهل الأرض حتى النملةَ في جُحرها ليصلّون على معلِّم الناس الخير)). الله أكبر، يا له من فضل عظيم وشرفٍ جسيم، لا ينتَظِر بعدَه المعلِّم من أحدٍ جزاء ولا شُكورًا.
أعِزّائي المعلمين، أخَواتي المعلِّمات، ومع عِظَم التشريف يعظُم التّكليف، فاللهَ اللهَ في الاضطِلاعِ بحَمل الرّسالة وأداءِ الأمانة على خيرِ وَجه، لقد ائتَمَنتكم الأمّة على أعزِّ ما تملِك، على عقولِ فلَذات أكبادِها وأبكار ثمراتِ فؤادها، أليس يقضي الطالبُ سحابةِ وقتِه وشطرَ يومِه متقلِّبًا في أعطاف قِلاع التعليم وحصون التربية؟! وهي المحاضِن المأمونة والأرحامُ السّليمة التي تلِد أجِنّة متسلِّحَةً بالأمن والإيمان، والتي من أهمِّ أركانها معلِّمون ناضِجون مهَرة وأساتِذَة طامحون بَرَرة، ولكن وا حَرَّ قَلباه وا عَظمَ خَطبَاه إذا خيَّب البعضُ الظنونَ، فانسلَّ في هذهِ العمليّة المهِمّة مندسّون في تموُّجَات عقديّة وفكريّة وسلوكيّة وانتِماءات وولاءاتٍ طائفيّة وحزبية.
فيا أيّها المعلم المبارَك، اجعَل طَوعَ بنانك وخَفقَ جنانك أصلَ الأصول الإخلاصَ لله في هذه المهمّة العظيمة، ولا يعزُب عن بالِك ـ يا رعاك الله ـ وأنت جنديٌّ في ميدان التعليم والتربية أن التعليمَ قُربة وعبادَة يزدَلَف بها إلى الله، فإن فقَد المعلّم هذا الأصل انتقَل من أفضل الطاعات إلى أسوَأ المخالفات، ومن أعالي الدّرجات إلى أحطِّ الدركات. فاستمسِك ـ أخِي المعلّم ـ أقرَّ الله بك الأعينَ بهذا الأصل الأصيل، فبِقَدر تحقُّقِه لديك تجنِي الثمارَ بيدَيك، غفَرَ الله لنا ولَك ولوالدينا ووالدَيك.
أمّةَ الإسلام، الجيل أمانة، والتعليم والتربيةُ أمانة، وأيّ ضَربٍ مِن التهاوُن والتقاعُس في أداء هذه الأمانة فإنّه لون من ألوان الخيانةِ، والله عزّ وجلّ يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]. ويا لله، ما أعظمَ هذه الأمانة، وما أخطَرَ التفريطَ فيها، لا سيّما في هذه الأعصارِ المتأخّرة حيث التحدّيات الخطِرَة والمستجدّات المتلاحِقَة والمتغيِّرات المتسارِعة والأزَمات المتتابِعة. فلعمرو الحقّ، كم نحن بحاجةٍ ماسّة إلى العواصِم من هذه القواصِم، ولعلَّ من حمِّلوا أمانةَ التربية والتعليم أولى ثم أَولى مَن يتحلَّى برَونَق هذه الرّسالة العظيمة من حيثيَّةٍ مهمّة، أحسبُ أنها من أهمِّ ما يتحلَّى به المعلّمون، ذلكم هو جانِب القدوَة والتزام أخلاقيّات هذه المهمّةِ الجسيمة، وذلك بحسن السمتِ والهديِ الصالح وجماليّات الباطن والظاهر ومُراعاة كريمِ السجايا والشمائل ونُبل الأخلاق والفضائل، إذ أقبَحُ ما يرى المتلقِّي من معلِّمه وهو يرمُق سلوكَه أن يخالف فعلُه قولَه، فإن وقع المعلّم في هذا الدّرك فهلاَّ لنفسِه كان ذا التعليم، طبيبٌ يداوي الناسَ وهو سقيم، وأبلَغُ من ذلك قولُ الحق تبارك وتعالى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3]. وهل أبرَزت تلك التناقضاتُ التربويّة إلا جيلاً يعيش معرّةَ التناقضِ والازدواجيّة وما تخلِّفُه من آثارٍ نفسيّة واجتماعيّة خطيرة. فأعيذك بالله ـ أيّها المعلّم الفاضل ـ أن تكون مسهِمًا في شيءٍ من ذلك بصورةٍ أو بأخرى، فما ذاك إلا طعنةٌ نجلاء بخنجَرٍ مسمومٍ في خاصِرة الفكر الصّحيح والمنهج السليم، ولذلك فإنَّ مسؤوليّة اختيارِ الأكفاءِ من المتصدِّين للرسالة التربويّة والتعليميّة مسؤوليّة عظمى، فلا يصَدَّر في هذا المجالِ كلُّ دعِيٍّ معوز ولا يعيَّنُ كلُّ متصحِّرِ الفكر مفلِس، حتى لا تُلاكَ هذه المهمّةُ العظيمة في كلِّ نادٍ ومجلس. ومِن هنا تأتي ضرورةُ حسنِ الإعدادِ ودورات التدريب والإمدادِ، ترقِّيًا في مدارِج السموِّ بهذه الرسالة الكبرى ورِجالاتها وجميعِ المنتسِبين إليها.
ومما يجدُر التذكير به في هذا الصدَد ربطُ العِلم بالأدب، فهما صِنوَانِ لا يفترقان، وعلى هذا درَج السلفُ الصالح رحمهم الله، وهو من أعظمِ حِلية المعلِّم الموفَّق، عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: "كانوا يتعلَّمون الهديَ كما يتعلَّمون العلم"، وعن رجاء بن حَيوَة رحمه الله أنه قال لرجلٍ: "حدِّثنا ولا تحدِّثنا عن متماوتٍ ولا طعّان" رواهما الخطيب في الجامع، وقال ابن المبارَك رحمه الله: "نحن إلى قليلٍ منَ الأدب أحوجُ منّا إلى كثيرٍ من العلم"، وقال ابن وهب: "ما تعلَّمنا من أدَبِ مالك أكثرُ مما تعلَّمنا من عِلمِه"، وقال الآجري في أخلاق العالم: "ويؤدِّب جلساءَه بأحسَن ما يكون من الأدب"، فالعِلم حَرب للفتَى المتعَالي كالسيلِ حَربٌ للمكان العالي، في تواضُعٍ جمّ وطلاقةٍ في المحيَّا وتصوُّنٍ عن الهيشَاتِ واللّغَط، فإنَّ الغلَط تحت اللّغط.
وإذا المعلِّم ساء لحظَ بَصيرةٍ جاءت على يدِه المعارِفُ حُولاً
مع الحذَر مِن إقحام المتعلِّمين فيما لا يدرِكونه ويَفهمونه، يقول علي رضي الله عنه: (حدِّثوا الناسَ بما يعرِفون، أتريدونَ أن يكذَّبَ الله ورسوله؟!)، وفي أثَرِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه: (إنّك لم تحدِّثِ الناسَ بحديث لم تبلغه عقولهم إلا كان لبعضِهم فِتنة).
عزيزي المعلّم، أختي المعلّمة، لا بدّ من ربط العلم والتربيةِ بالمعتَقَد الصحيح والمنهجِ السليم والدين الحنيفِ الذي شرفنا جميعًا بالانتساب إليه، رَبّوا الأجيال على منهَج الوسطيّة والاعتدال، فلا غلوَّ ولا جَفاء، علِّموهم قِيَم التسامُح والرِّفقِ واليسر ورفع الحرج، حذِّروهم من الأفكارِ المنحرِفة والمسالك الضالّة والتيّاراتِ المخالِفة للحقّ، سواء في جانِبِ الغلوّ في الدين أو التحلّل من القِيَم والثوابت والانسِياق وراءَ عَولمة الفكر وتغريبِ الثقافة، فكلا طَرفَي قصدِ الأمور ذميم. وأجزِم أنّه عند تحقيقِ ذلك كلِّه أنّ الأمّة ستسعَد بحمدِ الله ومنِّه بجيلٍ لا كالأجيال، فريدٍ من نوعِه عقيدةً ومنهجًا وسلوكًا.
وبعد: يا أمّة التربية والتّعليم، تلك شذَرةٌ من صِفات وآدابِ المعلّم الناجح؛ لإيجاد جيل ناجِح ونشءٍ صالح، تقرّ به أعيُن الأسرة والمجتمع والأمّة. فبورِكت جهود المعلّمين الأكفِيَاء، وسدِّدت أقوالهم وأفعالهم، ولا حرَمهم الله ثوابَ بَذلهم وعطائهم، فثَغرُهم من أهمِّ الثغور المعنويّة، فكم نفع الله بهم البلادَ والعِباد، وكم تعلَّمتِ الأجيال منهم كيف يكون البذل والعطاء، في منهَجٍ متميّز وفكر نيِّر وإبداع متألّق، سيَكون بإذن الله رصيدًا لهم في دنياهم وذخرًا لهم في أخراهم، وكان الله في عون العاملين لخدمةِ دينهم وصلاحِ مجتمعهم وأمّتهم، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
|