أيها الإخوة المؤمنون، في مثل هذه الأيام من كل عام يصحّ عزم كثير من الناس على امتطاء دوابهم ميمِّمين وجوهَهم شرقا وغربًا وشمالا وجنوبا في قضاء الإجازة الصيفية هاربين من حرارةِ الشمس اللافحة وأشعّتها المتوهّجة إلى حيث الظِلال الوارف والجوّ العليل، ولنا ـ عباد الله ـ مع الحرّ بعض الوقفات:
الوقفة الأولى: أنّ في هذا الحر دليلاً من دلائل ربوبية الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يقلّب الأيام والشهور، ويطوي الأعوام والدهور، وهو الواحد الأحد الصمد سبحانه وبحمده، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ [القصص:71، 72]. فوجوده سبحانه وربوبيتُه وقدرتُه أظهرُ من كل شيء على الإطلاق.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ثم تأمل هذه الحكمة البالغة في الحرّ والبرد وقيام الحيوان والنبات عليهما، وفكِّر في دخول أحدهما على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته، ولو دخل عليه مفاجأة لأضرّ ذلك بالأبدان وأهلكها وبالنبات، ولولا العناية والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك.
الوقفة الثانية: إنّ شدة الحرّ ينبغي أن تبعث المؤمن على الخوف من الله سبحانه؛ لأن شدة الحرّ من فيح جهنم كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والسبب في ذلك ما جاء في صحيح مسلم عنه رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب، أكل بعضي بعضا، فأذن لي أتنفّس، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم)).
فيا من لا يطيقون حرارة الجو، يا من لا يتحمّل الوقوف في الشمس ساعة، كيف أنتم وحرارة جهنم؟! والله ثم والله، لسنا لها بمطيقين، فإن حرَّها شديد، وقعرها بعيد، جاء في الحديث: ((إن أنعم أهل الأرض من أهل الدنيا يؤتى به يوم القيامة، فيُغمس في النار غمسة، فيقال: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرَّ بي نعيم قط)) رواه مسلم. ينسى كل نعيم الدنيا بمجرد غمسة واحدة في جهنّم مع أنه أنعم أهل الأرض!
أليست جهنم ـ يا عباد الله ـ أولى أن يُفرّ منها؟! نصح العلامة الألبيري ابنه فقال:
تفر من الهجيـر وتتقيـه فهلا مـن جهنم قد فررتـا
ولستَ تطيق أهونها عذابا ولو كنت الحديـد بِها لذبتا
ولا تنكر فإن الأمر جـد وليس كما حسبتَ ولا ظننتا
الوقفة الثالثة: إن الحرّ ابتلاء من الله تعالى لعباده، فلا يجوز أن يترك المسلم ما أمره الله به من واجبات، ففي السنة التاسعة من الهجرة قدّر الله تعالى أن تقع غزوة من غزوات الرسول في حرٍّ شديد وسفر بعيد، وهي غزوة تبوك، فالجوّ حار، والمسافة بعيدة، والعدو شرس، فبرز موقف النفاق، وأخذ المنافقون يتلمسون الأعذار في التخلف عن الغزوة، وكان من بين أعذارهم قولهم: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81]، فإنهم يريدون أن يؤثروا الراحة والدعة في المدينة حيث طيب الثمار ووفرة الظلال، فيؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، فذكّرهم الله تعالى بالحقيقة الأكيدة بقوله: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]، فإن كنتم مشفقين من حرارة الأرض فأجدر بكم أن تشفقوا مما هو أشدّ منها حرارة، لكنهم لا يفقهون هذه الحقيقة، فيضحكون سخرية واستهزاء، لكنّ ضحكهم قليل إذا ما قورن ببكائهم يوم القيامة جزاءَ ما قدمت لهم أنفسهم من نفاق، هذا النفاق والكفر الذي يتجدد في كل زمان ومكان.
ومن أعاجيب التعابير القرآنية أنه شبّه الكفر بالحر والإيمان بالظل، فقال سبحانه: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ [فاطر:19-22]، فحال المؤمن يُشبه حال الظل؛ لأن الإيمان ظل ظليل، تستروحه النفس، ويرتاح له القلب، وتطمئن فيه المشاعر، وتصدر فيه الأعمال عن تبصّر وتريث وإتقان. أما حال الكافر فتشبه الحر، تضطرب فيه النفوس، وتلفح القلبَ فيه لوافح الحيرة والقلق وعدم الاستقرار على هدف وعدم الاطمئنان إلى نشأة أو مصير، ثم تنتهي إلى حر جهنم ولفحة العذاب عياذا بالله، فنسأل الله تعالى أن ينجينا من الشرك والشك والنفاق والشقاق وسيئ الأخلاق، إنه جواد كريم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|