أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ.
أيها المسلمون، ما كان تزويق ألفاظ، وما كان حديثا يفترى ذلك الحديث الذي روى به التاريخ أنباء أعظم ثلة ظهرت على وجه الأرض في دنيا الناس وفي ميدان العقيدة والإيمان.
إن التاريخ الإنساني بعرضه وطوله لم يشهد من الصدق والتوثيق وتحري الحق والحقيقة مثل ما شهد تاريخ الإسلام في سير رجاله السابقين.
إن التاريخ لم يشهد رجالاً اشتد بالله عزمهم، وصدقت لله نواياهم،، في غايات شريفة من الإيمان والإصلاح، نذروا لها حياتهم، صدقوا ما عاهدوا الله عليه في جسارة وتضحية. إنه لم يشهد كما شهد في الرجال من صحب رسول الله رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
كيف أنجز هؤلاء الأبرار هذا الإنجاز، وفتحوا هذه الفتوح في بضع سنين؟! كيف شادوا بقرآن الله وكلماته نظامًا جديدًا، وعالمًا فريدًا يهتز نضرة ويتفوق قوة وقدرة، في لمح البرق وضيائه؟! أضاءوا الإنسانية بحقيقة التوحيد وصفاء العقيدة ونور الشريعة. إن هذا وربك الإعجاز في الإنجاز، ويقود هذا الإعجاز إلى إعجاز آخر يتمثل في سيرهم الذاتية وطبائعهم النفسية التي صاغ الدين فضائلها، وهذب القرآن سجاياها. عاشوا مع نبيهم محمد ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]. نفوس صدقت في إيمانها، فتولدت فيها قوة الثبات، وحقيقة الولاء، فكان ذلك البذل العظيم الذي بذلوا، والهول الشديد الذي احتملوا، والفوز الكبير الذي حازوا. لقد حرروا البشرية من وثنية العبودية، وتيه الضمير، وضلال المسير وضياع المصير.
في دراسة السير والتاريخ لسلفنا الصالح نشهد كتائب الحق وهي تطوي العالم بإيمانها، ترفع رايات الحق لتعلن توحيد الرب وتحرير الخلق.
أيها الإخوة، وهذه وقفة مع سيرة رجل من هؤلاء الرجال، بل إنه رجل لا كالرجال، إنه الصديق أبو بكر خليفة رسول الله الأول، والمؤمن برسول الله من الرجال الأول. رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً. سبق إلى الإيمان، وبادر إلى الرفقة، ولازم الصحبة واختص بالمرافقة في الغار والهجرة: ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا [التوبة:40].
فمن سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر. كيف لا وقد أعلن المصطفى وهو على المنبر خطيبًا: ((إن أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقى باب في المسجد إلا باب أبي بكرٍ))[1].
وفي أفراد البخاري: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذب، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟!))[2].
ويزداد الأمر وضوحًا ووضاءً حين يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما لأحد عندنا يد إلا وكافيناه بها ما خلا أبا بكر؛ فإن له يدا يكافيه الله بها يوم القيامة))[3].
أبو بكر الأبيض النحيف اللطيف، خفيف العارضين، جعد الشعر، دقيق الساقين، خفيف اللحم، يخضب الحناء والكتم.
هو الوقور جميل السمت، يغر على مروءته، ويتجنب ما يريب، لم يشرب الخمر في الجاهلية؛ لأنها تخل بوقار مثله. وقد سئل عن ذلك يومًا فقال: كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي.
أيها الإخوة في الله، أصحاب المقامات والقيادات وذوو الشرف والوجاهات يعتصمون بالوقار والاحتشام، ويستزيدون من خلائق الصدق والمروءة والوفاء، في شفافية نفس، ورهافة حس. لقد بلغت نفسه قصارى ما تبلغه نفس طيبة من رعاية حقوق الناس، ومسارعة إلى الخيرات، ودرء للشرور وساقط الأمور.
يقول ربيعة الأسلمي رضي الله عنه: جرى بيني وبين أبي بكر كلام فقال لي كلمة كرهتها، وندم أبو بكر عليها، فقال: يا ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصًا. قلت: لا أفعل. قال: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله . فقلت: ما أنا بفاعل. فانطلق أبو بكر إلى رسول الله . وجاءني ناس من قومي من أسلم فقالوا: رحم الله أبا بكر في أي شيء يستعدي عليك، وهو الذي قال لك ما قال؟! فقلت: أتدرون من هذا؟ أبو بكر ثاني اثنين، وهو ذو شيبة في الإسلام، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما، فيهلك ربيعة. وانطلق أبو بكر وتبعته وحدي، حتى أتى رسول الله فحدثه الحديث كما كان، فرفع رسول الله إلي رأسه فقال: ((يا ربيعة مالك وللصديق؟)) فقلت: يا رسول الله كان كذا وكذا، فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها، وطلب مني أن أقول كما قال حتى يكون قصاصًا فأبيت. فقال عليه الصلاة والسلام: ((أجل لا ترد عليه. ولكن قل: قد غفر الله لك يا أبا بكر))[4].
أبو بكر يكره أن يسيء إلى أحد؛ لأنه – وهو الودود المؤدب – يعلم ما توقعه الإساءة في النفس من ألم قد يخرجها عن طورها في حلمها وأناتها. لقد كان يتحاشى السقط من الكلام، وإذا مدحه مادح قال: اللهم أنت أعلم مني بنفسي، واغفر اللهم لي ما لا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون.
لقد كان كريم النزعات والطوايا، سريع التأثر بمآسي من حوله، مع طموح عجيب إلى المثل العليا، يسابق إلى الخيرات، ويبادر إلى صنوف البر والإحسان، ومواساة ذوي الحاجات.
صلى رسول الله الفجر ذات يوم بأصحابه، فلما قضى صلاته قال: ((أيكم أصبح اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: من أطعم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة))[5].
أيها الإخوة، إن أبا بكر رضي الله عنه بأفعاله الجميلة، ومبادراته المتنوعة يدخل الجنة ليس من باب واحد ولكن من أبواب الجنة جميعها؛ فلقد عدد رسول الله أبواب الجنة فكان مما قال: ((من كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان. فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما على الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ وهل يدعى من كلها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم. وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر))[6]. ومن أجل هذا فلا جرم أن يقول عمر وعلي رضي الله عنهما: ما سابقنا أبا بكر إلى خير قط إلا سبقنا عليه.
أيها الإخوة، ولئن كان أبو بكر أليفًا مألوفًا، سمحًا ودودًا، ليناً سهلاً، حسن الحديث أديب المجالسة ـ فلتعلموا أن هذا الرفيع من السجايا والجميل من المحامد يؤازره قسط وافر من رجاحة العقل، وحصيف الذكاء الذي يتميز به ويحتاجه ذوو الأقدار الكبيرة من الرجال، فقد قيل فيه وفي أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما: (هما داهيتا قريش)، ولقد كان أبو بكر أسرع إلى الفطنة والإدراك فيما يعرض به النبي لأصحابه من التلميح دون التصريح.
يحدث أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: جلس رسول الله على المنبر يوماً فقال: ((عبد خيره الله أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده))[7]، فبكى أبو بكر وبكى، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله هو المخير. وكان أبو بكر أعلمنا به.
ويقترن بدماثة الخلق وهدوء الطبع ورجاحة العقل قوة في الحق وشجاعة في النفس وإخلاص للمبدأ؛ فحين أسلم أعلن إسلامه، وجهر بصلاته، ولقي من الأذى في مكة ما لقي، وتحمل في ذلك ما تحمل.
وفي المعارك كان القريب من رسول الله ، شهد المشاهد كلها وكانت معه الراية يوم تبوك، ولم تذكر له قط هزيمة في ساعة من ساعات الشدة؛ لا في أحُد ولا الخندق ولا حنين، ولا ثبت أحد حيث يصعب الثبات إلا كان هو أول الثابتين، لم يفارق نبيه محمدًا لا حضرًا ولا سفرًا.
ولقد اجتمعت تلك الصفات كلها وبرزت في أجلى صورها وأبهى ممارساتها حينما تولى الخلافة بعد رسول الله ، فلقد كان خير خليفة، أرحم الناس وأحناهم عليهم في عفةٍ وصدق ودعةٍ وحزم، وأناةٍ وكيسٍ، ويقظةٍ ومتابعةٍ، ومن رد أهل الردة إلا أبو بكر؟! الضعيف عنده قوي حتى يأخذ الحق له والقوي عنده ضعيف حتى يأخذ الحق منه. نعم لقد كان قوة للضعيف ونصفة للمظلوم، و مفزعاً للملهوف، فهو الخليفة الشفيق، وهو الراعي الرفيق، يذود الأمة عن مراتع الهلكة، ويحمي من الحرِّ والقرِّ، يهتم بشؤونهم، ويغتم لشكايتهم، وصي اليتامى، وخازن المساكين، كالقلب بين الجوانح، تصلح بصلاحه كل الجوارح.
أيها الإخوة، والحديث يطول في مسيرة لا ينقضي منها العجب. فهل تعي الأمة في أعقاب الزمن، وفي مواضع الفتن المجيد من تاريخها ؟ أم هل يعي شبابها أن روح التاريخ يكمن في سير الرجال الأفذاذ ؟ ولكن ما الحيلة إذا كان الرجال لا يقدرون الرجال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ٱلالْبَـٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلاة – باب الخوخة والممر في المسجد، حديث (466) واللفظ له، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حديث (2382).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب المناقب – باب قول النبي : ((لو كنمت متخذاً...)) حديث (3661).
[3] صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب المناقب – باب مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه حديث (3661) وقال: حسن غريب وذكره الحافظ في الفتح (7/13) وصححه الألباني، صحيح الجامع (5537) وصحيح سنن الترمذي (2894).
[4] إسناده ضعيف، أخرجه أحمد (4/58)، والطيالسي (1174)، والطبراني في الكبير (4577)، والحاكم (2/172-173)وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: لم يحتج مسلم بمبارك. قلت: في إسناده المبارك بن فضالة قال الحافظ: صدوق يدلس ويسوي، تقريب (6506)، والتسوية حذف ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر ليوهم اتصال السند بالثقات، وهو أسوأ أنواع التدليس. وقد عنعن المبارك هنا، وتصريحه بالسماع عند الحاكم (3/521) إنما هو في قطعة من الحديث . ولم يصرح بالسماع في الرواية الأخرى. وانظر مسند أحمد بتحقيق شعيب الأرناؤوط وغيره (27/115).
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الزكاة – باب من جمع الصدقة وأعمال البر، حديث (1028).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصوم – باب الريان للصائمين، حديث (1897)، ومسلم: كتاب الزكاة – باب من جمع الصدقة وأعمال البر، حديث (1027).
[7] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلاة – باب الخوخة والممر في المسجد، حديث (466، 3654، 3904)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حديث (2382). |