أمَّا بعد: فقد شدَّ المسلمون رحالهم إلى المسجد الحرام لأداء مناسك الحج، ثم شدُّوا رحالهم إلى المسجد النبوي، ولو أنهم استطاعوا لشدُّوا رحالهم إلى المسجد الأقصى، ولكنَّه تحت غصب وعدوان اليهود، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، ما دمنا لا نستطيع في هذه الحال شدَّ الرحال إلى المسجد الأقصى بالأجساد فسنشدُّ إليه الرحال بالأرواح والفؤاد، فنتجول في تاريخه وفضائله وبركاته وشيء من أحكامه، فقد عظُم جهل المسلمين به، وما ذاك إلا ليأسهم من إعادته واسترداده، ولكنَّنا سنتحدّث عنه أملاً وتفاؤلاً في فتحه وانتزاعه من إخوان القرود.
أيُّها المسلمون، سُمي هذا المسجد بالمسجد الأقصى لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، ويُسمَّى أيضًا بيت المقدس أي: المكان الذي يُطَهَّر فيه من الذنوب.
وأمَّا حدوده فقد قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: "المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام، وهو اسم لجميع ما دار عليه السور، ويشتمل على المسجد الذي في صدره وقبة الصخرة هذا هو الصحيح" اهـ، فعلى هذا كل ما كان داخل السور فهو من المسجد الأقصى وما لا فلا.
وأمَّا تاريخ بناء المسجد الأقصى فقد أخبر الصادق الصدوق بأنَّه ثاني مسجد وضع على ظهر الأرض، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجدٍ وُضِع في الأرض أولاً؟ قال: ((المسجد الحرام))، قلت: ثم أيّ؟ قال: ((المسجد الأقصى))، قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون سنةً، ثم أينما أدركتك الصلاة فصلَّه، فإنَّ الفضل فيه)) رواه البخاريُّ.
عباد الله، من فضائل المسجد الأقصى ما رواه النَّسائيُّ بسندٍ صحيحٍ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لما فرغ سليمان بن داود عليهما السلام من بناء بين المقدس سأل الله ثلاثًا: سأله حكمًا يصادف حكمه ـ أي: حكمًا يوافق حكم الله ـ فأعطاه إياه، وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه))، فقال رسول الله : ((فنحن نرجو أن يكون الله عز وجل قد أعطاه إياه))، ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنهما يأتي إلى المسجد الأقصى فيصلي فيه ولا يشرب فيه ماء لتصيبه دعوة سليمان عليه السلام لقوله: ((لا يريد إلا الصلاة فيه))، وهذا من تمام ورع ابن عمر رضي الله عنهما، وإلا فلو خرج رجل من بيته وهمه الأول الصلاة في المسجد الأقصى ثم شرب فنرجو أن تصيبه دعوة سليمان عليه السلام.
أيها الإخوة، في الحديث السابق ما يدل على أن سليمان عليه السلام بنى مسجدًا ولم يبن هيكلاً كما تزعمه اليهود، كما يدل الحديث السابق على أن بناء سليمان لم يكن بناء ابتداءٍ وتأسيس، وإنما كان بناء تجديد للمسجد؛ لأنَّا علمنا مما سبق في الحديث الصحيح أن بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى أربعين سنة، فإن قلنا: إن إبراهيم أوّل من بنى المسجد الحرام فليس بين إبراهيم وبين سليمان عليهما الصلاة والسلام أربعون سنة، بل بينهما أكثر من ذلك قطعًا، فعلى هذا لا يدرى على وجه التعيين من الذي ابتدأ بناء المسجد الأقصى؛ لأنه لم يصح شيء عن رسول الله في ذلك، ولكن قال بعض العلماء اجتهادًا: إن آدم أوّل من أسس المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وإن بناء إبراهيم للكعبة وبناء سليمان للمسجد الأقصى كان بناء تجديد لا بناء ابتداء وتأسيس والله أعلم.
ومن فضائل المسجد الأقصى إخبار الله تعالى في كتابه بأن البركة حوله قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1]، والمراد بالبركة هُنا هي البركة الدينية والبركة الدنيوية، فالبركة الدينية لأنه مقرّ الأنبياء والصالحين، ولأن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة كما سيأتي، وما سبق من دعوة سليمان وما سيأتي في هذه الخطبة كلّها من بركاته الدينية، وأما البركة الدنيوية فما جعل الله حوله من البركة لسكانه في معايشهم وأقواتهم وحرثهم وزروعهم، فقد أجرى الله حوله الأنهار وأنبت الثمار.
ومن فضائل المسجد الأقصى استحباب شدّ الرحال إليه على وجه العبادة، وهذا باتفاق العلماء، وذلك لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى))، ولهذا فقد أجمع العلماء على استحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه كالصلاة والدعاء والذكر وقراءة القرآن والاعتكاف وغيرها.
ومن فضائل المسجد الأقصى وبركاته أن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة على الراجح من أقوال العلماء، لما روى أبو الدرداء رضى الله عنه قال: قال رسول الله : ((الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي هذا بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة)) وهذا حديث حسن رواه الطبراني في الكبير. فاللهمّ ارزقنا فيه صلاةً بل صلوات قبل الممات تخرجنا من الذنوب والخطيئات كما ولدننا الأمهات، إنك تسمع الأصوات وتجيب الدعوات.
ومن فضائل المسجد الأقصى أن رسول الله أسري إليه وصلى بالأنبياء هناك.
ومن فضائل المسجد الأقصى أن الدجال لا يدخله، فقد روى جنادة قال: أتينا رجلاً من الأنصار من أصحاب رسول الله فذكر الحديث وفيه: ((علامته ـ أي: المسيح الدجال ـ يمكث في الأرض أربعين صباحًا، يبلغ سلطانه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد: الكعبة ومسجد الرسول والمسجد الأقصى ومسجد الطور)) رواه أحمد ورجاله ثقات.
ومن فضائل المسجد الأقصى أن نبي الله محمدًا وأصحابه كانوا يصلون وقبلتهم المسجد الأقصى في ابتداء فرضية الصلاة، ثم تحولت القبلة إلى الكعبة بعد الهجرة بستة أو سبعة عشر شهرًا كما روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: صلى رسول قِبَل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا بعد الهجرة. رواه البخاري.
ومن فضائل المسجد الأقصى أنه في أرضٍ مباركةٍ وهي أرض بلاد الشام كما قال تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء:81].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|