أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، أهبط الله أبانا آدم أبا البشر للأرض، وقال له ولزوجته: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [البقرة:36]، فأخبرهم تعالى أنّ لهم في الأرض مستقرًّا، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرى [طه:55]، وأنّ لهم فيها متاعًا إلى حين، متاعًا ليس دائمًا، متاعًا مُقدّرًا، عمرٌ مقدّر، أجل محدود لن يتأخّر عنه لحظة.
أيها المسلم، إن الله جلّ وعلا خلق الموت والحياة؛ ليبلونا أينا أحسن عملاً: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2].
أخي المسلم، هذا الموت مكتوب على كلّ فرد منّا، فهي نهاية كل حي: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26، 27]، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].
هذا الموت لن ينجو منه أحد مهما علت منزلته، لا الأنبياء والمرسلون ومن دونهم، قال الله لنبيه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:31]، وأخبرنا تعالى أنه لن يُعطَى أمان لأحد عن هذا الموت: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34، 35]، وأخبرنا تعالى أن هذا الموت لا فرار لنا منه: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8]، وبيّن لنا ربنا أنّ هذا الأجل إذا حان فلا يمكن ردّه، ولن يستطيع أحد أن يوقفه: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11]، وأخبرنا تعالى عن عجز البشر كلهم عن تأخير ذلك: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:83-87]، وفي الحديث القدسي يقول الله: ((ولا تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي من قبض روح عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأكره إساءته، ولا بد له منه)).
أيها المسلم، وهذا الموت فيه عظة للمتّعظ، وعبرة للمعتبر، ولذا يقول : ((أكثروا من ذكر هادم اللذات))، ففي الإكثار منه تسلية، وفي الإكثار منه إنابة إلى الله، ورغبة فيما عند الله، واستعداد للقاء الله، ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].
أيها المسلم، وهذا الموت يهدم أعمال الإنسان، هذا الموت يوقف أعمال الإنسان، وبموته تنقطع أعماله، وتُطوَى صحائف أعماله، ولن يُسمح لشيء يصحبه إلا عمله الذي عمله إن خيرًا وإن شرًّا، في الحديث: ((يتبع الميت ثلاث: أهله وماله وعمله، فيرجع الأهل والمال، ويبقى العمل))، لا يفارقه دافنوه وهو يسمع قَرْع نعالهم حتى يأتيه الملكان فيسألانه عن ربه، عن دينه، عن نبيه.
أيها المسلم، ففي تذكّر الموت عظة للعبد وإيقاظ له من سِنَته وغفلته، وحث له على الازدياد من هذه الأعمال الصالحة، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
والمسلم أمام مصاب الموت صابر محتسب، في الحديث يقول : ((عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله لعجب؛ إن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له))، وهو عند المصائب يرضى ويسلّم، ويتذكّر قول الله: وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155، 156].
ثم ليعلم أن هذا الموت لله فيه حكمة بالغة، فهو يتذكّره ليستبين له عظمة الله وقدرته على كل شيء، وأنه ملك الملوك، وربّ الخلائق أجمع، هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:65].
أيها المسلم، ولنلق نظرة سريعة على شأن هذه الدولة المباركة منذ تأسيسها إلى اليوم، نسأل الله لها الاستمرار على الخير والصلاح.
فمنذ أن نشأت دعوة الإصلاح المباركة في هذه الجزيرة على يد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأيّده ووازره ونصره الإمام محمد بن سعود رحمه الله، وتعاهد الإمامان على القيام بالواجب؛ دعوة الناس إلى الخير، ربطهم بالصراط المستقيم، إعادتهم إلى المنهج القويم والصراط المستقيم، إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله ، إلى تطهير البلاد من أدران الشرك والوثنية، إلى دعوتهم إلى إخلاص الدين لله، وإلى تحكيم شرع الله وإلغاء أعراف الجاهلية وضلالاتها، وإلى العودة إلى المنهج الصافي كتاب ربنا وسنة نبينا ، فكانت تلك الاتفاقية منطلق الخير وما زالت حتى عمّ الجزيرةَ الخيرُ والهدى، واضمحلّ الشرك، وانطمست معالم الجاهلية، وعاد الناس إلى الخير والهدى بفضل الله ورحمته، فرحم الله الإمامين، وجزاهما عمّا قدّما خيرًا.
توالى على هذا الأمر أولاد الإمام محمد نهوضًا بهذه الدعوة، وقيامًا بالواجب، ثم جاء دور الإمام تركي بن عبد الله رحمه الله، فأعاد الناس إلى الحق أيضًا، وجاهد وصبر، وابنه فيصل كذلك، ثم جرى ما جرى، ولكنّ الله لطف بالعباد، ففي الأول من القرن الرابع عشر هيّأ الله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله، وأيّده بنصره ووفّقه فقام بواجب عظيم بعدما تشتّت أمر البلاد، واضطرب الأمر، واختلّ النظام، وعاش الناس في فوضى، فأتى الله به ليصحّح هذه المسيرة، وليعيد الناس إلى نصاب الحق، وليؤمّن الجزيرة من كل الاضطرابات، وليجمع الشمل، وليوحّد الصفّ، ونهض المسلمون معه تأييدًا له وعونًا له، إلى أن يسّر الله الأمر، فأقرّ الله عينه بهذه الجزيرة، وقد انتظم شملها، واتّحد صفّها، وأصبحت ـ بتوفيق من الله ـ تحت قيادة حكيمة تحكّم فيها شرع الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتقيم حدود الله، وتؤمّن السبل إلى بيت الله الحرام، وإلى مسجد محمد ، وانتشر العلم والخير، وعمّ الرزق، فلله الفضل والمنة.
ولما انتقل رحمه الله إلى جوار ربه رحمه الله رحمة واسعة خلفه أبناؤه الملوك الذين تولّوا من بعده، وكل ترك لمسات في نهضة هذه الأمة لا تخفى، فالملك سعود والملك فيصل وخالد وخادم الحرمين فهد بن عبد العزيز رحم الله الجميع، كلٌّ أدّى رسالته، وكلٌّ أدّى واجبه، وكلٌّ قام بما استطاع، فرحم الله من مضى، وأصلح من بقي.
هذه البلاد قامت على أسس الخير والتقوى، هذه البلاد يحكمها ملوك من أبنائها بشرع الله ودينه، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، يقيمون حدود الله، ويؤمّنون السُّبُل، ويسعون فيما فيه راحة الأمة، والدفاع عن دينها، والدفاع عن خيراتها، وحماية الحرمين الشريفين، وخدمتهما والقيام بذلك خير قيام، مضى أولئك الملوك على أحسن حال، فالحمد لله رب العالمين.
وفي هذه الأيام رحل من بيننا فهد بن عبد العزيز غفر الله له، رحل من بيننا بعدما أمضى ما يقارب أربعة وعشرين عامًا في الحكم، كانت أيامه أيام خير وبركة ونعمة واستقرار وطمأنينة، وأيّده ولي عهده وإخوته على هذا المنهج العظيم، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عمّا قدّم للإسلام والمسلمين خيرًا.
أيها الإخوة، رحل من بيننا فهد بن عبد العزيز رحمه الله، وقد اعتصر الألم قلوبنا، وتأثّرنا تأثّرًا عظيمًا، ولكن برحمة الله سَلاّنا عن مصيبتنا، وهوّن علينا ذلك المصاب الجَلَل ما مَنّ الله به علينا من الاتفاق وهذا الاتحاد واجتماع الكلمة والصفّ، فهذه من أجلّ نعم الله علينا بعد نعمة الإسلام. بايع المسلمون في هذا البلد عبد الله بن عبد العزيز ملكًا عليهم، وثقوا بالله ثم به، وأعطوه عهودهم ومواثيقهم، بايعوه بيعة شرعيّة على كتاب الله وسنة رسوله ، والسير بهذا البلد بما سار عليه أبوه وإخوته الماضون، وبايعوا سلطان بن عبد العزيز وليًا لعهده، فهما رجلان معروفان، قاما بواجب كبير، وفّقهما الله، وأيّدهما بنصره، وصحبهما بالتوفيق في الحاضر والمستقبل، وبارك الله لهما في أعمارهما وأعمالهما، وجعلهما أنصارًا لدين الله، قائمين بشرع الله حق قيام، إنه على كل شيء قدير.
أيها المسلم، إن نعمة الأمن والاستقرار نعمة من أجلّ النعم بعد نعمة الإسلام، نعمة الاتفاق والتحام الصفّ، التحام الكلمة، اجتماع الأمة، فهي نعمة من نعم الله على المسلمين، إنّ ما أصاب المسلمين في دينهم أوّله اختلال الأمن والتسلّط على السلطة عندما قام الأراذل من البشر على قتل عثمان وهو الخليفة الراشد، فعاث الناس في دمائهم سنين عديدة، إلى أن جمعهم الله على يد أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، كل ذلك مما يعطي التصوّر على أن الأمن والاستقرار واجتماع الكلمة وقوة القيادة والتحامها أن هذا نعمة من الله للعباد، يعيش الناس في ظل الالتحام والاتفاق أمنًا واستقرارًا، يعبدون الله جلّ وعلا، ويسعون في مصالح دينهم ودنياهم آمنين مطمئنّين مستقرّين، يعلمون أنّ الله هيّأ لهم من يحمي بلادهم، ويدافع عن دينهم ودنياهم، ويسعى في إيصال الخير لهم، فهذه نعمة من الله.
البيعة أمرها عظيم، والبيعة تكون لأهل الحل والعقد، وكل المسلمين يبايعون بقلوبهم قبل أن تبايع أيديهم؛ لأن هذه البيعة أمر مستقرّ في نفس كل مسلم، ولهذا حذّر النبي المسلم من أن يلقى الله وليس في قلبه بيعة، فيقول : ((من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية))، وفي لفظ: ((لقي الله ولا حجّة له))؛ لأن المسلم في قلبه حبّ الخير للمسلمين، حبّ اجتماع الكلمة وتآلف القلوب، الحرص على الأمن والاستقرار، السمع والطاعة في المعروف، فبها تنتظم الكلمة، ويجتمع الصفّ. الفوضى والعياذ بالله، وفقدان القيادة من أي مجتمع يحوّل هذا المجتمع إلى مجتمع فوضوي، وإلى مجتمع تنتهك فيه الأعراض، وتسفك فيه الدماء، وتُنهب فيه الأموال، وتتعطّل فيه السُّبُل، ويعيث الناس بعضهم بعضًا، وواقع الحال مشاهد فيما تنقله الأخبار، وتحمله لنا من أمور يعرفها كل أحد.
إن هذا البلد واستمرار أمنه واستقراره، وكونه يعيش في ظله فئات من المسلمين في أمن واستقرار ورعاية للعهود وحفظ للعقود كل ذلك ـ ولله الحمد ـ من رحمة الله علينا، والله جلّ وعلا قد ذكّر سكّان بيته الحرام بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:66]، نعم يتخطّف الناس من حولنا، ونحن نسمع فقط، في أمن واستقرار وانتظام حال.
مضى فهد بن عبد العزيز رحمه الله وتولّى خليفته بعده الأمر والناس في أعمالهم وفي أسواقهم وما كأنّ شيئًا كان، ذلك أن هذه الأمّة قد رحمها الله بهذه القيادة، ومنّ عليها بهذه الحكومة الراشدة، زوّدها الله من التقوى، وبصّرها بالخير، وجعلهم أئمة هدى، إنه على كل شيء قدير.
فليحمد المسلمون ربهم على هذه النعمة، وليعرفوا قدرها، وليقوموا لله بحقها، وليحمدوا الله آناء الليل وأطراف النهار أن هيّأ لهم تلك النعمة، ومنّ عليهم بذلك الفضل، فلله الفضل والمنة أوّلاً وآخرًا، نسأله شكر نعمته وحسن عبادته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر والحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|