أيها الناس، لقد كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يتفاعل مع الظواهر الكونية، فله مع كُلٍّ منها هدي، فإذا هاجت الريح كان له هدي، وإذا نزل الغيث كان له معه هدي، وإذا كسفت الشمس أو خسف القمر كان له هديُ، فحريٌّ بالمسلم أن يكون على علم بهديه؛ ليتسنّى له الاقتداء برسولنا ، فالله يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
عباد الله، في هذه الخطبة سنتناول هدي الرسول مع الغيث؛ تعليمًا للجاهل، وتذكيرًا للعالم، وتفاؤلاً بنزول الغيث.
أيها المؤمنون، لقد صحّ عنه أنه كان يدعو الله مرارًا، ويلحّ عليه أن ينزل الغيث، يدعوه في صور شتّى، ولم يكن يقتصر على صلاة الاستسقاء فحسب، كحالنا نحن ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقول ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في هدي خير العباد: "ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه استسقى من وجوه:
الوجه الأول:
يوم الجمعة على المنبر أثناء الخطبة، وقال: ((اللهم أغثنا)) ثلاثًا، أخرجه البخاري ومسلم.
الوجه الثاني:
وَعَد الناس يومًا يخرجون فيه إلى المصلّى، فلما طلعت الشمس خرج متواضعًا مُتَبذّلاً مُتخَشّعًا. وهذه صلاة الاستسقاء المعروفة.
الوجه الثالث:
أنه استسقى على منبر المدينة استسقاءً مجرّدًا في غير يوم جمعة، ولم يُحفظ عنه في هذا الاستسقاء صلاة، خرّجه ابن ماجه.
الوجه الرابع:
أنه استسقى وهو جالس في المسجد، فرفع يديه ودعا الله عز وجل، فحُفِظ من دعائه حينئذ: ((اللهم اسقنا غيثًا مُغِيثًا مَرِيعًا طَبَقًا عاجلاً غير رائِث نافعًا غير ضار)) رواه أبو داود بسندٍ صحيح من حديث جابر بن عبد الله، ومعنى مَرِيعًا: أي ذا خَصَابةٍ ومَرَاعةٍ.
الوجه الخامس:
أنه استسقى عند أحجار الزيت قريبًا من الزَّوْرَاء وهي خارج باب المسجد، رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
الوجه السادس:
أنه استسقى في بعض غزواته لمّا سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطشُ، فاستسقى لهم"أهـ.
أيها المسلمون، إذن يُستحبّ لنا أن نهتدي بهدي الرسول عليه الصلاة والسلام وندعو الله بنزول الغيث في شتّى الأوقات التي تُرجى فيها الإجابة، كالدعاء في السجود، وفي وقت السحر، وبين الآذان والإقامة ونحوها.
عباد الله، وكان من هدي النبي مع الغيث ما روته عائشة رضي الله عنها حين قالت: كان رسول الله إذا رأى غَيْمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله، إنّ الناس إذا رأوا الغَيْم فرحوا؛ رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفتُ في وجهك الكراهية، فقال رسول الله : ((يا عائشة، ما يؤمّنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذِّب قومٌ بالريح، وقد رأى قومٌ العذاب وقالوا: هذا عارضٌ مُمطِرُنا)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. وروى مسلم في صحيحه حديثًا عن عائشة قالت: كان رسول الله إذا عَصَفِت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أُرسِلت به، وأعوذ بك من شرها وشرّ ما فيها وشر ما أُرسِلت به))، قالت: وإذا تَخَيَّلَتِ السماء تغيّر لونه، ودخل وخرج، وأقبل وأدبر، فإذا أَمطرت سُرِّيَ عنه، فعرفتْ ذلك عائشة رضي الله عنها فسألته، فقال رسول الله : ((لعله ـ يا عائشة ـ كما قال قوم عاد: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف:24])). وهذا الفعل ـ يا عباد الله ـ منه من عدم أمنه من مكر الله، وقد عاب الله قومًا أمنوا مكره، قال سبحانه: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون [الأعراف:99]، ومَن فعل هذا الهدي النبوي ـ أي خاف عند الغيم أو الريح ـ ربما رماه بعض الناس بالتشاؤم، وهذا من الجهل بالسنّة النبوية، والله المستعان.
أمة محمد ، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام مع الغيث هو أنه إذا أمطرت السحاب سُرِّيَ عنه هذا الخوف، كما قالت عائشة هذا عنه: (فإذا أمطرت سُرِّيَ عنه) أخرجه مسلم.
بل إنه يفزع إلى المطر يكشف عن ثوبه، كما قال أنس بن مالك : أصابنا مطر ونحن مع رسول الله فَحَسَر عن ثوبه حتى أصابه المطر وقال: ((إنه حديث عهد بربه)) خرّجه مسلم.
وكان إذا رأى المطر قال: ((اللهم صَيِّبًا نافعًا)) أخرجه مسلم.
أيها الأمّة، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام مع الغيث أنه إذا كثر وخاف من الضرر على الناس قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظِّراب وبطون الأودية ومَنابِت الشجر)) متفق على صحته بين البخاري ومسلم. والآكام والظِّراب هي الجبال الصغيرة. وتأمّل هذا الدعاء النبوي العظيم حيث خصَّ بقاء المطر في هذه الأماكن؛ لأنها أسهل في الزراعة، وأيسر في الرعي من شواهق الجبال العظيمة التي لا تُنال إلا بالمشقّة.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم...
|