أما بعد: فيقول الحق تبارك وتعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [الحج:72].
إنها كراهية الحقّ الذي لا يستقيم مع الهدى والزّيع، إذا تلي القرآن العظيم الهادي إلى الصراط المستقيم ورِمَت أنوف الكفار واشتدّ غيظهم، حتى لم يتمالكوا كتمه، فظهر على وجوههم، واليوم ظهر في تصرفاتهم وما عملته أيديهم.
كتاب الله العظيم يدنس ـ وهو مكرّم كرّمه الله ـ على أيدي أدعياء الحضارة في معتقلات كوبا وسجون أفغانستان والعراق، ضمن سلسلة قديمة حديثة من العداء الدفين لهذا الكتاب وأهله. تحاول هذه الحضارة البائسة يائسة أن تخفيَ وجهها الكالح أمام مليار ونصف المليار من المسلمين. إنها سلسلة ماضية في حلقاتها منذ أن نزل هذا القرآن على قلب محمد في مكة.
تأملوا ـ يا كرام ـ إلى هذه الآيات مرة أخرى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ أي: الكفار، آيَاتُنَا أي: القرآن، بَيِّنَاتٍ أي: واضحات، وفي تقييد الآيات بكونها واضحات تفظيعٌ لإنكارهم لها، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ، ما قال سبحانه: "تعرف في وجوههم المنكر" مع أنهم تقدّم ذكرهم، بل أظهر جلّت قدرته علّة الإنكار وهي الكفر فقال: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، إذًا هذا هو السبب، هذه هي العلة، ثم إنه ذكر سبحانه الوجوه وأن الناظر في وجوههم لحظة تلاوة القرآن يلحظ ذلك التغيّر الواضح المُنبي عن كره بغيض لمضمون تلك الآيات المتلوّة، وفي هذا كناية عن امتلاء نفوسهم من الإنكار والغيظ حتى تجاوز أثره بواطنهم فظهَر على وجوههم، ولا شك أن ما في البواطن أعظم وأشنع؛ لأنه سبحانه وصفهم بقوله: وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
معاشر المؤمنين، إذا كانوا يضمرون كل هذا الشرّ بمجرد تلاوة الآيات فماذا يمكن أن يفعلوا لو ظفروا بهذا الكتاب ووقع في أيديهم، أو دارت لهم الدائرة على حملة هذا القرآن، هذا ما يذكره الله عنهم في قوله: يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا، ومعنى يَسْطُونَ أي: يبطشون، إنهم يكادون ويقاربون أن يصُولُوا على الذين يتلون هذا الكتاب من شدّة حقدهم وغيظهم من سماع هذا القرآن.
ويحهم! ماذا فيه غير سعادة البشرية؟! ماذا فيه غير الحق؟! ماذا فيه غير الهدى حتى تمتلأ قلوبهم بكل هذا الغيظ لمجرد سماع آياته؟! إنهم لا يملكون حجة ولا دليلاً ولا برهانًا، إنما هو العمى والتجبر والبطر.
معاشر المؤمنين، هذا وصف بليغ لا مزيد عليه، يفسّر لنا ما يملأ سمع العالم الآن من هذه الجريمة البشعة التي تعرض فيها هؤلاء الصاغرون لكتاب الله العظيم، وهي تكشف عن جرائم كثيرة مماثلة طوتها سحُب الظلام، لم تلتقطها عدسة مصوّر، ولم تنشرها صفحة جريدة، إنها جريمة تمثل جرائم، وفضيحة في سلسلة فضائح لوجه الحضارة المزعومة راعية الحرية والسلام، ونفي الخبر والواقعة لن يغير من الحقيقة شيئًا؛ لأن الخرق قد اتّسع على الراقع.
عباد الله، عبثُ الصاغرين ضدَّ هذا الكتاب سيبقى ما بقي الخير والشر، والأساليب ستتنوع، وأقنعتهم ستتلون، لكنهم بإذن الله خاسرون وأمام كلام الله مدحورون.
تأملوا ـ رعاكم الله ـ إلى هذه الصورة التي تمثل نموذجًا آخر ليس ببعيد عن سابقها من مواقف الحاقدين على هذا النور، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26].
معاشر المؤمنين، تأملوا ـ رعاكم الله ـ إلى تكرار العلة ذاتها في إيماءَة جديدة إلى أن الكفر هو دافع التواصي بعدم سماع الحق، بل والتعدّي على هذا الكتاب، فيقول سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا، إنها إذًا وصية الكبراء المنظرين، حملَة القرار لأنفسهم وللجماهير، لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ، لهذا الحق؛ لأنهم عجزوا عن مغالبة أثر القرآن في نفوسهم ونفوس الجماهير. لا تَسْمَعُوا ردٌّ للحق قبل سماعه، إنه منطق يدلّ على تخلّف واضح في ركب التحضّر، لا حِوار، لا سماع، لا مناقشة، لا، ليس هذا فحسب، بل هم ينحدِرون إلى نهايات أبأس وأسوأ عندما يواجهون عظمة القرآن وحججه وبراهينه بتلك الوصية العاجزة والمهاترة السخيفة: وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ، أتدري ـ أيها المؤمن ـ ما معنى "الغَوا في القرآن" التي يتواصى بها أساطين الكفر؟! وهي تتكرر لكن بصورَة مناسبة لروح كلّ عصر، أتدري ما ذلك اللغو؟! إنه الصياح والصفير وإنشاد الشعر والأراجيز وترديد أقوال لا معنى لها، المهمّ أن تعلوَ أصواتهم فوق صوت النبي حينما يقرأ القرآن، يا لها من وسيلة عاجزة تنبئ عن حيلة ضعيفة؛ لأنهم يدركون أن القرآن غالبهم، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
واليوم يريدون إسكات صوت القرآن وحجب نور هدايته بالأغاني والموسيقى والتمزيق والغوغائية بكل أشكالها، إنها صورة مكررة، لكن في كل عصر بحسبه.
معاشر المؤمنين، هذه أساليب الأعداء، وذاك هو موقفهم من القرآن، ومن الصعب أن يتغير؛ لأنهم يدركون أن كلّ شيء يمكن أن يتغير على حسب ما يريدون، لكن القرآن لن يحذف منه حرف، ولن تحرف فيه آية، والله لو قدروا على ذلك لحذفوا بعض آياته، ولحرفوا بعض كلماته، ولكن ذلك ليس لهم ولا للناس أجمعين؛ لأن الحافظ له هو الله سبحانه، لذا لجؤوا إلى هذه الأساليب الوضيعة التي لا تدنّس إلا سمعتهم، ولا تضع إلا من أقدارهم.
معاشر المؤمنين، دعونا نقف قليلاً بعد هذا الإيضاح على بعض دلائل هذه الحادثة المشينة:
أولاً: إنها تقدم دليلاً جديدًا مع أدلة كثيرة على شناعة الوجه الآخر لهذه الحضارة المقنّعة بالحرية والسلام يوم تتصادم مع الآخر.
ثانيًا: إن هذا القرآن سيبقى عزيزًا مكرمًا رغم أنوف الأعداء، أليس هو كلام الله؟! أما قال سبحانه عنه: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41، 42]، ونحن على يقين أن الله سينتقم لكتابه كما انتقم لبيته، وسيحميه كما حمى بيته، والتاريخ شاهد أنه ما مزّق أحد هذا الكتاب إلا مزق الله شمله وملكه، ولا حاول أحد الإساءة إليه إلا رده الله إلى هوّة الذلة والصغار.
فأيقنوا ـ أيها المؤمنون ـ ببوادر النصر والعلو لهذا الدين ولكتابه ولأهله وسقوط أعدائه؛ لأنه ما تعرّض أحد لهذا الكتاب بسوء إلا خذله الله وجعل عاقبته إلى خيبة وسوء.
اطمئنّوا أيها المؤمنون، فلن يستطيع أحد أن ينال من هذا الكتاب؛ لأن القرآن قد انتصر في معركته مع أعدائه على جميع الأصعدة على مدى ألف وأربعمائة سنة، انتصر فيها نصّه فلم يتغيَّر ولم يتبدّل، وبقي النص الذي تلاه رسول الهدى هو النص ذاته الذي نتلوه اليوم، وانتصر بهديه فما زالت القلوب تهفو إليه، وما زال تأثيره يزداد وشأنه يعلو ويصعد، ولا عجب في ذلك؛ لأن الحافظ له هو الله القدير سبحانه، أما قال جلت قدرته: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، هذه سبع كلمات اجتمع فيها ما يقارب عشرة مؤكدات: "إنَّ" و"نا" الدالة على الفاعلين المشعرة بالعظمة والقوة، و"نحن" الدالة ـ زيادةً على ما سبق ـ على التوكيد والحصر أي: نحن لا غيرنا، "نزلنا" وما قال: "أنزلنا"، وصيغة فعَّل أقوى في الدلالة من أفعَل، وفيها أيضًا "نا" الدالة على الفاعلين المشعرة بالعظمة، وفي كلمة "الذكر" ما يشعر بأنه مرفوع من أول يوم، ولا تنس تكرار "إنا" وتقديم "له" ولام التوكيد في "لحافظون"، كل هذه المؤكدات المتتالية التي ربما لا نجد لها مثيلاً تمنح المؤمنين ثقة بنصر الله. هذا هو الحفظ الشامل العام، وهناك حفظ جمعِه وطريقة قراءته، أما قال سبحانه لنبيه عندما كان يحرك لسانه لحظة نزوله مخافة أن تفلت منه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:16-19].
لقد نزل هذا القرآن منجّمًا حسب الحوادث، فمن الذي تولى جمعه؟! إنه الله سبحانه وتعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فلم يتدخّل بشر في ذلك. وهذا نوع مهم من الحفظ لهذا الكتاب العزيز؛ لأنه لولا ذلك لربما سقطت بعض الآيات، أو قدّم بعضها على بعض.
معاشر المؤمنين، في هذه الآية تكفّل المولى سبحاه بجمع هذا القرآن وطريقة قراءته وبيانه وتوضيحه، وتلك هي صور الحفظ الشاملة التي تجعل المسلم اليوم يقرأ هذا الكتاب وهو مطمئنّ أنه قرأه كما كان يقرؤه رسول الله بترتيبه الوارد في المصاحف.
وبعد كل هذه الضمانات من الحفظ فلن يقدر أحد على مغالبة هذا الكتاب، ومن أراد فعل ذلك فقد حكم على نفسه بالسقوط والهوان.
يا أيها الكرام، تأملوا معي هذا المثل: لو أنّ الناس كلهم انقلبوا إلى كناسين للغبار من الأرض ليلوّثوا صفحة السماء النقية أو يلطخوا وجه الشمس الساطع، هل سيكون لهم ذلك؟! كلا؛ لأنهم لن يغبّروا إلا على أنفسهم، ولن يؤذوا إلاّ ذواتهم، وما مثل هؤلاء الحاقدين الصاغرين والقرآن إلا كمثل ذباب لاذ بعقاب ليؤذيه، فقصف العقاب بجناحيه قصفة واحدة فشتت الذباب وجعله شذر مذر وحَيص بيص، وما علم العقاب به شيئًا ولا شعر بوجوده أصلا.
فاطمئن أيها المؤمن بربه، فهم الذين سيزدادون صغارًا على صغارهم وذلاً على ذلهم، وسيزداد القرآن وأهله سموا وعلوا، فالمهم هو عزة المبدأ، لا بهرجة القوة
ثالثًا: إن الخير مغروس في هذه الأمة، فها هي تنتفض من أقصاها إلى أدناها شعوبًا وحكومات مستنكرة هذه الفعلة الشنعاء، وكأنما الناس كانوا نيامًا أو مخدّرين، فلما مُسّ هذا الكتاب العزيز دبّت فيهم الحياة وتحركت الضمائر واشتعلت فتائل القوة الغائرة في النفوس، هذا دليل على أنه مهما حِيك من المؤامرات لإبعاد الناس عن هذا الكتاب فستبوء كل المحاولات بالفشل والخسران.
رابعًا: إن هذه الحادثة تقدم دليلاً جديدا على أن من يسعى لتأجيج العواطف وإشعال فتيل الغضب هم هؤلاء الذين يدّعون رعاية السلام، ماذا كانوا ينتظرون إذا أساؤوا إلى هذا المصحف الشريف؟! أينتظرون أن تصفق لهم جماهير الإسلام ويوزعوا باقات الورود، أم كانوا ينتظرون الصمت والإذعان؟! إن ما حدث دليل أن للصمت حدودًا وللإذعان مراحل، فإذا وصل الأمر إلى أركان الدين في إساءات معلنة فلن لَن يملكَ مشاعر الناس وعواطفهم أحد. كما أن التاريخ يشهد بأن المسلمين لم يدنّسوا يومًا كتابًا سماويًا ولا علميًا، بل يحفظونه، أو يتلفونه بطريقة لا تمسّ مكانته. هذه الحضارة يا أدعياء الحضارة؛ لأنّ منبعها الدين لا قوانين البشر.
اللهم احفظ كتابك من كيد الكائدين وعبث العابثين، اللهم رد كيدهم في نحورهم، واجعله مسمارًا في نعش حضارتهم.
عباد الله، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|