.

اليوم م الموافق ‏24/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

كيف يواجه المسلم فتن العصر؟

3022

الرقاق والأخلاق والآداب

الفتن, الكبائر والمعاصي

حسام الدين خليل فرج

الدوحة

جامع صلاح الدين

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- الفتن التي تعصف بالأمة الإسلامية. 2- سنة الله في ابتلاء عباده المؤمنين. 3- بعض الفتن الموجودة في هذا العصر. 4- استعاذة النبي من الفتن. 5- خطورة الفتن. 6- سقوط الخلافة الإسلامية. 7- الاستعمار وأثره على دول الإسلام. 8- سبيل النجاة من الفتن.

الخطبة الأولى

في هذا العصر تمرُّ الأمة بفترة عصيبة، تعصف بها رياح الفتن حتى كادت تفقدها هويتها، تفقدها دينها؛ لتصبح تابعةً مسخًا إمَّعة لأعدائها من يهود ونصارى وهنادكة وثنيين. وبحسب المسلم أن يجيل نظره في رُقعة العالم الفسيح، ليرتدّ إليه بصره خاسئًا وهو حَسِير، كيف لا وهو يرى جموعًا من المسلمين تسير سَلِسة القِياد في دروب فتن لا ككل الفتن، بل فتن كقطع الليل البهيم، تَسِير وتَسِير، ويُضْنيها المسير، تلهث وتلهث، فإذا هي تلهث وراء سراب خادع يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب، تلهث وراء شقائها وتعاستها، تبيع في سوق الفتن دينها بعرض زائل من الدنيا.

ويصدق فيها قول القائل:

نرقع دنيانا بتمزيق ديـننا      فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

ما يعصف بالمسلمين اليوم من رياح الفتن لم يعصف بهم مثلها. إن هذه الفتن اليوم تحيط بهذه الأمة من كل جانب، تحيط بها في دينها وفي قوتها واقتصادها ومعيشتها وفي نسائها وفتياتها وأطفالها وشبابها وكبارها.

لقد تكاثرت هذه الفتن وتضافرت بحيث أصبحنا نراها بكرة وعشية، ونرى آثارها بأم أعيننا في خاصة أنفسنا في بيوتنا وأولادنا، في أهلنا وإخواننا ومن حولنا، مِنْ تفلُّتٍ عن الدين وانزلاق للأقدام بعد ثبوتها.

نعم، الفتن قدَرٌ واقع وسنة ثابتة، وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، قال تعالى: أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ [العنكبوت:2، 3]. استفهام إنكار، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين ويمتحنهم.

وهذه الآية كقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [التوبة:16]. وفائدة الاختبار أن يتميز المؤمن من غيره، ولهذا قال تعالى: مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَـئَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]. ما كان لله أي: ليس من سنة الله.

لكن فتن هذا العصر متضافرة متكاثرة، يرقق بعضها بعضا مصداقًا لقول نبينا : ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا دل أمته على ما يعلمه خيرًا لهم، وحذرهم ما يعلمه شرًا لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وإن آخرها سيصيبهم بلاء شديد وأمور تنكرونها، تجيء فتن يرقق بعضها لبعض، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، ثم تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه، ثم تنكشف، فمن سره منكم أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه موتته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)) رواه أحمد (2/161). ففي عصرنا تجمعت ألوان الفتن، فالفتن قسمان لا ثالث لهما: فتنة شهوات وفتنة شبهات، وقد تجمعت كلها في عصرنا.

فالدنيا فتحت على الناس ما لم تفتح من قبل، قال كما في الصحيح: ((فوالله، لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا)) رواه البخاري (2988).

واستطاع شياطين اليهود والنصارى أن يزينوها للناس، ويتفننوا في إشغال الناس بها، وأن يحدثوا أنواعًا من الفجور لم تكن تخطر على البال سابقا، وأبسط مثال على ذلك الدشّ وما فيه ومواقع الإنترنت الإباحية، حتى أصبح ديدن الكثيرين المتعة والشهوة ولو كانت حرامًا.

ترى الرجل معنا في صلاة العشاء، ثم لا تراه في صلاة الفجر؛ لأنه ذهب فأسلم نفسه لفلم داعر أو موقع إباحي.

فتنة تسلّط الكافرين على المسلمين وتمكّنهم من المال والجاه والسلطان ورميهم المسلمين عن قوس واحدة، وهي لا شك فتنة عظيمة؛ لذا قال سبحانه: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ [آل عمران:196]، وقال: لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88].

فتنة الكاسيات العاريات، وقد أشار إليها النبي في قوله: ((صنفان من أمتي لم أرهما)) فذكر: ((نساء كاسيات عاريات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا سنة)) رواه مسلم (2128).

ولقد رأينا في عصرنا كيف تخرج المرأة كاسية ولكنها عارية، ما لم يأت مثله في عصر من العصور، حتى في العصر الجاهلي، كانت المرأة في الجاهلية تكشف ـ لو كشفت ـ بحسبها أن تكشف قرطَها، نحرَها، ساعديها، شيئًا من قدميها، أما اليوم فهي تكشف ما يستحى من ذكره، لم يبق إلا أن تكشف السوءتين، فأين تبرج الجاهلية من تبرج اليوم؟!

فتنة التفرق، والله إن الحسرة والألم ليعتريان المسلم يوم يرى الفُرْقَة بين من ينتسبون لعقيدة واحدة ومنهج واحد، إلى عقيدة أهل السنة والجماعة ومنهجهم. ويحزن أخرى يوم يرى الشيطان وحظوظ النفس تؤزّ المسلم أزًّا للفرقة والتنازع والتباغض، وعدوهم واحد يحارب الإسلام وأهله أيًّا كانوا.

بث فينا أعداؤنا الفرقة، فتشربنا كل ما يفرّق الأمة من قوميات وعصبيات وعنصريات ونَعَرَات جاهلية، والمقياس عند المؤمنين حقًا هو التقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ [الحجرات:13]، إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، جسد مؤمن واحد، بنيان واحد، أمة واحدة، لا شرق ولا غرب.

وأصبحت لا ترى الشّعور الذي عبر عنه الشاعر بقوله:

إذا اشتكى مسلم في الهند أرَّقني وإن بكى مسلم في الصين أبكـاني

ومصر ريحانتي والشام نرجستي  وفِي الجزيـرة تـاريخـي وعنوانِي

أرى بُخَارَى بلادي و هي نائية  وأستريـح إلى ذكـرى خُرَاسـان

وأينمـا ذكر اسم الله فِي بلدٍ  عددت ذاك الحمى من صُلْب أوطاني

فتنة قلب الحقائق، يقال للمتمسك بدينه: إرهابي، أصولي، فضولي، رجعي، متأخر، يرى المسلم نفسه وهو صاحب الحق الذي سُخّرت من أجله السماوات والأرض وهو صاحب المنهج طريدًا شريدًا وحيدًا، ويرى غيره ممكَّنًا مكرَّمًا معززًا.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جعله الله خُلقًا لهذه الأمة، كما قال: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ [آل عمران:110]، وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، فتجد من الناس مَنْ إذا ذكرت ذلك عابوك؛ لأنهم يرون المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، لقد انقلبت الحقائق.

فتنة تولي الرويبضة دفة التوجيه الإعلامي، كما قال : ((وينطق الرويبضة))، قالوا: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)).

فتنة استذلال الأمة، أمة يتلاعب بها اليهود والنصارى ليلا ونهارا كما يتلاعب الصبيان بالكرة، يرى المسلم الأمة ضعفت بعد القوة، وذلت بعد العزة. أمة دستورها القرآن ونبيها أشرف النبيين تتسول على موائد الأمم فكرًا واقتصادًا وسياسة. أمة بعد القيادة رضيت بالقبوع في ذيل القافلة. أمة تتعثر في سيرها، بل إنها لا تعرف طريقها.

فتنة تعطيل الشريعة، عُطّلت أحكام الشريعة، وتحولنا إلى القوانين الوضعية، وعزلت أحكام الشريعة عن التحاكم إليها، وإنما يتحاكم الناس ويحكّمون نُظمًا غربية، جاؤوا بها من أعدائهم، حكّموها وتحاكموا إليها، فلا حدود تقام، ولا قصاص يقام، ولكنها الأحكام الوضعية المشتملة على الظلم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل.

فتنة الربا، المعاملات الربوية وكيف سرت في عالمنا الإسلامي، حتى يتصور البعض أنه لا يمكن أن يعيش إنسان بلا ربا، ولا يمكن لأي اقتصاد أن يقوم بلا ربا، ولا يمكن أي مجتمع أن يعيش بلا ربا، فأصبح الربا يرونه ضرورة من ضروريات الحياة، وإذا قلت لهؤلاء: هذا الربا حرمه الله، ولعن النبي آكله ومؤكله، وآذن الله أكلته بالحرب: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، وأن الربا ممحق للبركة: يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرّبَوٰاْ وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَـٰتِ [البقرة:276]، إذا حذرتهم من ذلك قالوا: أنت إنسان تعيش في قرون ماضية وقرون خالية وعقول جامدة، لا تفهم الحياة، ولا تعرف قدرها. لماذا؟ لأنك قلت: الربا حرام، وقلت لهم: إن المعاملات يمكن أن تقوم بلا ربا.

ولكثرة هذه الفتن صار المسلم يشعر بغربة الإسلام، ففي صحيح مسلم عن النبي قال: ((بدأ الدين غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء)) وفي بعض الألفاظ: قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ((الذين يُصلحون ما أفسد الناس))، أو ((يَصْلحون إذا فسد الناس)).

وإذا كانت الفتن في السابق من أرادها أتاها ومن أنكرها وجد ملجأ ومعاذًا فإن الفتن اليوم صارت تحيط بالناس إحاطة السور بالبيت والقلادة بالعنق، ونخشى ذلك اليوم الذي يغرق فيه الناس غرقًا في طوفان الفتن، حيث لا يبقى بيت ولا سوق ولا شارع ولا ناد ولا مدرسة إلا وتحل فيها الفتنة، شاء الناس أم أبوا.

وقد أخبر النبي بوقوع هذه الفتن وأنها فتن عظيمة، أخرج البخاري في كتاب المظالم والغصب عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ قَالَ: ((هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي أَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ))، وأخرج البخاري في كتاب الفتن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجأ أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ)).

وكان النبي يكثر من أن يستعيذ من الفتن، وبوب البخاري في كتاب الفتن: "بَاب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، وَمَا كَانَ النَّبِيُّ يُحَذِّرُ مِنْ الْفِتَن"، عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ)).

ولهذا كانت معرفة كيف يتعامل المسلم مع تلك الفتن واجبا محتما علينا في هذا العصر الذي نعيش فيه معمعة الأفكار واضطراب الموازين وموالاة الكفار، وتوطَّدت سبلُ الغواية واستحكمت، ودأبت كثير من وسائل الإعلام على خلخلة المفاهيم الصحيحة في عقول الناس، وجعلت المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وخاصة تلك الفضائيات التي أمسك بزمامها من لا خلاق لهم ولا أخلاق.

ولخطورة شأن الفتن قال سبحانه: وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ [البقرة:191]، وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ [البقرة:217]، لأن الوقوع فيها يعنى ذهاب الدين. وتأمل معي فيما سوف أقول: لقد جاء الإسلام بل كل الشرائع الإلهية لحفظ خمس كليات باتفاق العلماء: الدين، النفس، العقل، العرض، المال، فإذا كان لا يمكن الحفاظ عليها كلها قدم الحفاظ على الدين على الحفاظ على غيره من تلك الكليات؛ ولهذا شرع الجهاد للحفاظ على الدين وإن كان فيه إتلاف النفوس والأموال، فإذا ذهبت نفوسنا وأموالنا وبقي لنا الدين فلا يهم، وهذا على عكس ما عليه كثير من الناس، فلسان حالهم: إذا سلمت نفوسنا وأموالنا فلا يهم ذهاب ديننا.

فخطورة هذه الفتن أنها قد تؤدي إلى خسارة الدين، الخسارة التي لا تنجبر، خسارة الدنيا والآخرة؛ لذا وصفها النبي بأنها كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا.

وخطورة الفتن أنها تعرض على القلوب، لا على الأسماع والأبصار فقط، فعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله : ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادًا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض)) رواه مسلم. وأنت لا تستطيع أن تنجو عند الله ولو صمتَ النهار وقمت الليل وبسطت يدك بالصدقة إلا إذا كان قلبك سليما، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].

ولذا كم تكون حسرة بعض الناس من الذين في الفتنة سقطوا عندما يطردون عن حوض المصطفى ، أخرج البخاري في كتاب الفتن عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ: عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((أَنَا عَلَى حَوْضِي أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ، فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ مِنْ دُونِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي! فَيُقَالُ: لا تَدْرِي، مَشَوْا عَلَى الْقَهْقَرَى))، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَن.

ولا تزال هذه الفتن تعمل عملها في الأمة حتى تتميز إلى معسكرين لا ثالث لهما، كما في حديث عبد الله بن عمر عندما ذكر الفتن قال: ((ثم فتنة الدهيماء ـ الداهية التي تدهم الناس بشرها ـ، لا تدع أحدًا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل: انقطعت تمادت، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا؛ حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، إذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من اليوم أو غد)) رواه أبو داود.

ولذا كانت الخشية من الوقوع في الفتن صفة أساسية في المؤمنين، وقد ذكر سبحانه تضرّعَهم وسؤالهم إياه التثبيتَ على الحق والسلامةَ من الزيغ في قوله عز اسمه: هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاء ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلألْبَـٰبِ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ [آل عمران:7، 8].

وهذه أمُّ سلمة رضي الله عنها تحدِّث أن رسول الله كان يكثر في دعائه أن يقول: ((اللهم مقلبَ القلوب، ثبت قلبي على دينك))، قالت: قلت: يا رسول الله، وإنَّ القلوب لتتقلب؟! قال: ((نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إن قلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله عز وجل أقامه، وإن شاء الله أزاغه)) أخرجه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسناد صحيح.

وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان رسول الله يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك))، قال: فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، هل تخاف علينا؟! قال: ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلّبها كيف يشاء)) أخرجه الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه بإسناد صحيح.

وإذا كان صلوات الله وسلامه عليه قد خشي على هذه الثلة المؤمنة مع ما بلغت من رسوخ الإيمان ومع أن قرنها خير القرون كما جاء في الحديث المتفق على صحته فكيف بمن جاء بعدهم من أهل العصور؟! ولا سيما من أهل هذا العصر الذي أطلت فيه الفتن وتتابعت على المسلمين.

وانظر كيف كان عمر رضي الله عنه يخشى هذه الفتن مع بعد ما بينه وبينها، فعن شقيق قال: سمعت حذيفة يقول: بينا نحن جلوس عند عمر إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي في الفتنة؟ قال: ((فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))، قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: لا، بل يكسر، قال عمر: إذًا لا يغلق أبدًا، قلت: أجل، قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد ليلة، وذلك أني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأله: من الباب؟ فأمرنا مسروقًا فسأله، فقال: من الباب؟ قال: عمر.

فتأمل كيف كان عمر يحذر الفتن مع أنه أبعد الناس عنها، وتأمل كيف وصفها بأنها تموج كموج البحر، أي: متتابعة لا نهاية لها كما أن موج البحر لا يتوقف، وكما أن عند موجان البحر يهلك ناس كثير فكذلك هذه الفتن، ولذا فليس المخرج منها انتظار توقفها فإنها لا تتوقف، إنما المخرج منها بالحذر والأخذ بأسباب النجاة، فقد كسر الباب لما قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد المجوسي الحاقد على الإسلام والمسلمين، ومنذ ذلك بدأت الفتن بالظهور، فقتل بعده عثمان رضي الله على يد نفر من الأوباش، ثم قتل علي رضي الله عنه على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم.

وهكذا لم يسلم عهد الصحابة من الفتنة، وما زالت الفتنة في الأمة تنتشر ويضرم نارها، بين مد وجزر، وإن كانت بالعموم في ازدياد، حتى حل عصرنا هذا، فكان فيها أعظم الفتن والمصائب، وهو سقوط الخلافة الإسلامية، واقتسام الغرب العدو الأول للإسلام والمسلمين تركة الرجل المريض وهو اللقب الذي أطلق على الدولة العثمانية في أواخر عهدها، فما من بلد من بلاد الإسلام إلا ووقع تحت حكم الاستعمار إلا قليلاً، وحارب المسلمون المحتل الكافر، فأخرجوه بعد أن ذاق الهوان، لكنه لم يخرج إلا بعد أن حقق ثلاثة أمور:

الأول: تعطيل العمل بالشريعة الإسلامية وتثبيت التحاكم إلى القوانين الوضعية.

الثاني: تحرير المرأة المسلمة ونزع حجابها ونشر الاختلاط بين الرجال والنساء في التعليم والعمل.

الثالث: لم يخرج إلا بعد أن ترك له أذنابًا، يقضون بأمره ويسيرون وفق خططه في تدمير كيان الأمة.

ولم يعجز هؤلاء أن يجدوا لكل ما ينادون به من فساد تعليلاً وفائدة وحكمة، فاحتكموا إليها وضخموها ونشروها وقالوا للناس: هذا ما ندعو إليه، ندعو إلى إعطاء المرأة حقها، ندعو إلى آفاق واسعة، ندعو إلى اقتصاد قوي، ندعو إلى ثقافة عالية، ندعو إلى حضارة وتمدن وتقدم. وكلها شعارات ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها فيه العذاب والفتن والألم والحسرة. ومنذ ذلك الحين والمكر والفتن تزداد بشكل أكبر.

ومثل هذا ما خشيه علينا النبي حين قال: ((إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن)) رواه أحمد.

ولذلك لا بد لكل عاقل أن يبحث عن سبيل النجاة ويعضّ عليه بالنواجذ. ما سبيل النجاة من فتن اليوم؟!

سبيل النجاة في تحقيق الإيمان في القلوب، فهذا طريق المرسلين وسبيل الله المتين، قال تعالى: وَيٰقَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَوٰةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى ٱلنَّارِ [غافر:41]، وقال تعالى: ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِ ٱلْمُؤْمِنِينَ [يونس:103]، وقال تعالى: وَأَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [الأنبياء:53]، وقال تعالى: وَنَجَّيْنَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ [فصلت:18].

ها هو الشاب القوي الحييُّ العالم الذي يبلغ ثلاثين سنة، إنه الربيع بن خُثَيْم، يجتمع عليه فُسَّاق لإفساده، فيأتون بغانية جميلة، ويدفعون لها مبلغًا من المال قدره ألف دينار، فتقول: علام؟! قالوا: على قبلة واحدة من الربيع بن خثيم، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني؛ لأنه نقص عندها منسوب الإيمان، فما كان منها إلا أن تعرضت له في ساعة خلوة، وأبرزت مفاتنها له، فما كان منه إلا أن ابتعد عنها يركض ويقول: يا أَمَة الله، كيف بك لو نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟! أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟! أم كيف بك يوم تقفين بين يدَيْ الرب العظيم؟! أم كيف بك إن شقيت يوم تُرْمَين في الجحيم؟! فصرخت وولَّت هاربة تائبة إلى الله، عابدة زاهدة حتى لقِّبت بعد ذلك بعابِدَة الكوفة، وكان يقول هؤلاء الفُسَّاق: لقد أفسدها علينا الربيع.

ما الذي ثبَّت الربيع أمام هذه الفتنة؟! هل قلة شهوة؟! إنها الشهوة العظيمة، وفي سن هو أوج الشهوة وهو سن الثلاثين، ومع ذلك ما الذي ثبته هنا؟! وما الذي عصمه بإذن الله؟! إنه الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، فالإيمان ـ يا أيها الأحبة ـ كالجمرة متى ما نفخت بها أضاءت واشتعلت؛ فأصبحت إضاءتها عظيمة عظيمة، وحين ينقص منسوب الإيمان يقع الإنسان في الفواحش والآثام، يغرق في الشهوات، ثم يقع بعد ذلك في الموبقات.

ومن المنجيات من الفتن القيام بالأمر بالمعروف وإنكار المنكر، أخرج البخاري عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)).

ومن المنجيات حفظ اللسان والصمت وقلة الكلام، فنحن نعيش زمن الكلام: نكات، غيبة، نميمة، أحقاد، قذف، تشهير وفضح ولغو وكلام غير نافع وسمر مقيت... الخ. عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ)) قَالَ أَبُو عِيسَى: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ". وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله : ((تكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف)) رواه ابن ماجه وغيره. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله لا يرى بها بأسًا فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفا)) رواه ابن ماجه.

ومن المنجيات إصلاح القلوب، لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج:53].

وصلاحُ الأَجْساد سهلٌ ولكن   في صَلاح القلوبِ يعيا الطبيبُ

والمجاهدة توفيق، وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].

الأخذ بالدين كله، قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ [البقرة:208]، قال ابن كثير: "يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عُرى الإسلام وشرائعه والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك".

ومن المنجيات الرجاء في حسن الجزاء، قال : ((عبادة في الهرج كهجرة إلي))، وقال: ((يأتي على الناس زمان للعامل منهم أجر خمسين))، قالوا: يا رسول الله، منا أو منهم؟ قال: ((منكم، فإنكم تجدون على الخير أعوانًا، ولا يجدون على الخير أعوانا)).

الضراعة إلى الله تعالى والدعاء، لدينا يقين لا يخالطه أدنى شك أننا لو أجمعنا أمرنا على التضرع إلى رب الناس في الليالي والأيام دعاء صادقًا خالصًا يخرج من قلب وجل مشفق أن يكشف عنا الغمة ويزيح عنا الفتنة فإن الله تعالى لن يخيب رجاءنا ولن يضيع مسعانا، فقط ندعو الله تعالى بصدق وإنابة وتضرع ويقين أنه سيكون معنا ولن يخذلنا ما دمنا نلتزم بابه لا نبرحه، وقد قال فيما رواه الحاكم: ((يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا دعاء الغريق)).

ومن المنجيات الحذر من أماكن هذه الفتن، ولهذا قال في الدجال: ((من سمع به فلينأ عنه))، ولعل هذا السبب في أن قراءة فواتح سورة الكهف عصمة من الدجال، حيث ذكر فيها فرار أهل الكهف بدينهم من الفتن: وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُواْ إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيّئ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا [الكهف:16].

والمبادرة إلى العمل الصالح من المنجيات، قال : ((بادروا بالأعمال الصالحة فتنا)).

إنك لا تعلم ما هو العمل الذي به تدخل الجنة، فلعلَّ شريطًا توزعه أو نصيحةً عابرة تتكلم بها يكتب الله بها لك رضاه ومغفرتَه.

ولقد أخبر النبي كما في الصحيحين أن امرأة بغيًا من بني إسرائيل كانت تمشي في صحراء فرأت كلبًا بجوار بئر يصعد عليه تارة، ويطوف به تارة، في يوم حار قد أدلع لسانه من العطش، قد كاد يقتله العطش، فلما رأته هذه البغي التي طالما عصت ربها وأغوت غيرها ووقعت في الفواحش وأكلت المال الحرام، لما رأت هذا الكلب نزعت خفها حذاءها وأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء وسقته، فغفر الله لها بذلك.

الله أكبر، غفر الله لها، بماذا؟ هل كانت تقوم الليل وتصوم النهار؟! هل قتلت في سبيل الله؟! كلا، وإنما سقت كلبًا شربةً من ماء، فغفر الله لها.

ومن المنجيات المراقبة، إذا خلوت بنفسك وظننت أن لا أحد يراك ولا أحد يراقبك وغلقت كل الأبواب وقالت لك نفسك الأمارة بالسوء: هيت لك، إذا صالت وجالت في بالك الخطرات وضعفت همتك أمام المغريات وحدثتك نفسك بالاقتراب من المنكرات والانسياق خلف الشهوات، إذا سقطت في وحل الفضائيات وتعلقت نفسك بالفاتنات وأدمنت مشاهدة المائلات المميلات الكاسيات العاريات وانسقت خلف التائهين والتائهات من الساقطين والساقطات، إذا رأيت في الطريق إحدى السافرات فأتبعت النظرة الأولى عشر نظرات، إذا جلست أمام أحد الحاسبات نظرت ما يعرض على الشبكة من المفسدات وأوغلت في تلك المشاهدات حتى ضعفت عن فعل الطاعات بل حتى تكاسلت عن أداء الصلوات، كل ذلك وتظنّ أنه لا أحد يراك، إذا فعلت ذلك أو هممت بفعله فتذكر تلك الجبال والنافذة، تذكر تلك الجبال، قال رسول الله : ((لأعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثالِ جِبَالِ تِهَامةَ بيضًا فَيَجعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هباءً مَنْثُورًا))، قَالَ ثَوْبَان: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لا نَعْلَمُ، قَالَ النبي : ((أَما إِنَّهُمْ إِخْوَانكُمْ وَمِنْ جِلْدَتكُمْ وَيَأْخذُونَ مِنْ اللّيلِ كَمَا تَأْخذُونَ، وَلَكِنهُمْ أَقوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)) رواه ابن ماجه.

إذا فعلت ما فعلت أو هممت بفعله فتذكر تلك النافذة، وأنت تنتهك حرمات الله تخيل أن نافذة تقبع بجانبك، وملك الموت يشرف عليك منها من حيث لا تعلم، وتخيل أنه نزع روحك وأنت في هذه الحال فبماذا ستقابل ربك وقد ختم لك بهتك الحرمات والإصرار على السيئات؟! نسأل الله لنا ولك الهداية والثبات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ومن المنجيات زيارة القبور وتذكر الموت، أخي المسلم، هل رأيت القبور؟! هل رأيت ظلمتها؟! هل رأيت وحشتها؟! هل رأيت شدتها؟! هل رأيت ضيقها؟! هل رأيت هوامها وديدانها؟! أما علمت أنها أعدت لك كما أعدت لغيرك؟! أما رأيت أصحابك وأحبابك وأرحامك نقلوا من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الأهل والولدان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الثرى والتراب، ومن أُنس العشرة إلى وحشة الوحدة، ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل؟! فأخذهم الموت على غِرة، وسكنوا القبور بعد حياة الترف واللذة، وتساووا جميعًا بعد موتهم في تلك الحفرة، فالله نسأل أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة.

أتيت القبـور فسـاءلتها      فأيـن المعظـم والمحتقر

وأيـن الْمذل بسلطانـه      وأين القوي على ما قدر

تفـانوا جميعا فمـا مُخبر      وماتوا جميعًا ومات الخبر

فيا سائلي عن أناس مضوا     أما لك فيما مضى معتبر

عن هانئ مولى عثمان قال: كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبلّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟! فقال: إن الرسول قال: ((القبر أول منازل الآخرة، فإن ينج منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه))، ثم قال: قال رسول الله : ((ما رأيت منظرًا إلا والقبر أفظع منه)) رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني.

 

الخطبة الثانية

لم ترد.

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً