أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، أنزل الله كتابَه العزيز، وأمر العبادَ بتدبّره والعمل بمقتضاه، ففي تدبّره والعمل بمقتضاه السعادةُ في الدنيا والآخرة، قال تعالى: كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ مُبَـٰرَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ٱلألْبَـٰبِ [ص:29]، وقال جل جلاله: وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155].
ففي تدبّر القرآن السعادةُ والهدى، وفي تدبّر القرآن الرحمةُ والخير، فالأمة تسعَد عندما يكون كتاب الله نظامَ حياتها، تحكِّمه وتتحاكم إليه، وتعمل بأوامره وتبتعد عن نواهيه، وتتأدَّب بآدابه، وتقف عند حدوده، فعند ذلك تنال السعادة في الدنيا والآخرة، فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ [طه:123]. أجل، إن اتباعَ القرآن العزيز عصمةٌ من الخطأ والضلال، فمن اتَّبع هذا القرآن وحكَّمه وتحاكم إليه نجا من الضلال والشقاء.
وهو نورٌ تهتدي به البشرية فيخلِّصها من ظلمات الجهل والضلال، قال تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال: قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَـٰبٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلَـٰمِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
إنما تُصاب البشرية في معتقداتها وفي أخلاقها وسلوكها، وإنما يصاب الفردُ أيضًا في نفسه في علاقته مع ربه وصلته مع أهله وصلته مع الناس أجمعين، إنما يصاب بالبلاء عندما يتخلى عن العمل بالقرآن، فتطبيق آداب القرآن سببٌ للسعادة والهناء في الدنيا والآخرة، والإعراض عنه سببٌ للشقاء في الدنيا والآخرة.
أيها المسلم، كتاب الله يهدي إلى كل خير، مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء [الأنعام:38]، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].
أيها المسلم، خذ مثلاً العلاقةَ بين الزوجين وضمانَ حقِّ كلٍّ منهما، قد جاء القرآن بما يكفل ذلك، وبما يُنهي كلَّ نزاع، وبما يحقِّق للزوجين السعادة الزوجية في هذه الدنيا، وبما يضمن اتفاقَ الكلمة، ونشْء الذرية في بيت تُرفرف عليه أعلامُ السعادة والهناء، ولكن عندما يُعرض الفرد عن كتاب الله ولا يطبِّق آدابَ القرآن عند ذلك يقع البلاء.
أيها المسلم، العلاقة بين الزوجين أمرٌ مهمٌّ، فإنَّ استقامتها سببٌ لاستقامة الحال وعمارةِ المنزل وانتظامِ شأن الولد وحياة الأولاد بين الأبوين المتعاونين في سبيل إصلاح الأولاد وتربيتهم التربية الصالحة. وعندما يعطِّل الناس آدابَ القرآن ولا يطبقونه تشقى الحياةُ الزوجية، فتبقى المرأة أرملة والزوجُ أيّمًا بلا زوجة، والولد يتشتت، ويُصاب الأولاد بالعُقد النفسية بين بعدهم عن أبيهم تارة وبين بعدهم عن أمهم تارة أخرى. وكلُّ ذلك من عدم تطبيق أدب القرآن في هذا.
الله جل جلاله في كتابه العزيز وضع للزوجين نظامًا إنْ هما سارا عليه فإنَّ ذلك سبب لسعادتهما واجتماعهما وتآلف قلوبهما، قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِى عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، فالجزء من هذه الآية بيَّن الله فيه أن للمرأة حقًا كما عليها حق، وللرجل حق على امرأته كما له عليها حق، فله عليها حق، ولها عليه حق، فإذا قام الزوجُ بالواجب عليه وقامت المرأة المسلمة بالحق الواجب عليها وتعاون الجميع على ذلك فعند ذلك تكون الحياة الزوجية حياةً طيبة سعيدة.
أيها المسلم، سنة محمد أرشدت الزوجين أيضًا إلى هذا المنهج القويم.
فأولاً: نجد في سنة رسول الله ترغيبَ الأزواج في القيام بحق النساء، ووصيتَهم بذلك، فرسولنا يقول: ((استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوجَ ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، فاستوصوا بالنساء خيرًا))، ويقول: ((المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتَها وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج))، فأخبرنا عن المرأة وضعفِها وعجزها وأنها خُلقت من ضلع أعوج, وأنَّ الرجلَ يجب أن يكون أقوى منها تحمّلاً، أشدَّ منها صبرًا وتحملاً، لا يعاتِب على كلّ قليل وكثير، ولا يأمَل الكمالَ المطلق، وإنما يقبل منها ما جاء، ويتحمَّل بعضَ ما فات، فبذا تستقيم الحياة، وفي لفظ: ((ولن تستقيم لك على طريقة))، فهي لا تستقيم لك على كلّ ما تريد، لكن الزوج هو أقوى وأشد تحملاً وصبرًا وعلاجًا للمشكل.
ويبين أن المرأة المؤمنة قد يكون منها شيء من الأخلاق التي لا يرضاها الزوج، وهي أخلاق لا تتنافى مع الشرف والفضل والفضيلة، ولكن طباع بعض الناس، فيقول : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر))، فالمرأة المؤمنة قد تكره منها شيئًا من الطباع، ولكن في مقابل ذلك ترضى بأخلاق حسنة وسيرة طيبة، فليكن ما لديها من خلق كريم وعمل طيب مقابلَ ما قد ترى منها من بعض المخالفات.
ويبين أيضًا كيف يتعامل الرجلُ مع امرأته، يسأله معاوية بن حيدة رضي الله عنه قائلاً: يا رسول الله، ما حقُّ امرأتنا على زوجها؟ قال: ((أن تطعمَها إذا طعمتَ، وتكسوَها إذا اكتسيتَ، ولا تضربِ الوجهَ، ولا تقبِّح، ولا تهجرْ إلا في البيت)) هكذا يوصي هذا الصحابي، أنك تنفق عليها، ((تطعمها إذا طعمت، تكسوها إن اكتسيت))، أيضًا إذا أردتَ التأديبَ فكن واقعيًا مؤدّبًا، لا تضربِ الوجه فهو أجملُ أعضائها، والضرب فيه إهانة، ((ولا تقبِّح)) لا تخاطبها بالألفاظ الشنيعة البذيئة الساقطة، تقولُ لها: قبَّحك الله، فكيف بمن يلعن أباها وأمَّها؟! وكيف بمن يسبّها ويعيبها؟! وكيف بمن يقول فيها ما هي براء منه؟! إنَّ غضبَك أحيانًا قد يحمِلك على شيء، لكن ليكن عندك تماسكٌ أثناءَ الغضب، وثباتٌ أثناء الغضب من أن يزلَّ لسانك بكلمات تندم عليها ولا ينفعك الندم.
ويبيِّن في حديث آخر حقَّ الزوجة على زوجها وحقَّ الزوج عليها فيقول: ((إن لكم على نسائكم أن لا يوطِئن فرشَكم أحدًا تكرهونه، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهونه، ولهنَّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)).
أيها المسلم، هكذا أرشد الإسلام الزوجَ كيف يتعامل مع المرأة، وكيف يصبر، وكيف يتحمَّل، وكيف يعالج أيَّ نزاع.
ثم في مقابل ذلك يرشد المرأةَ إلى طاعة زوجها، والسمع والطاعة له في المعروف، والتأدُّب معه، وتنفيذ أوامره، فيقول مبيِّنا عظيم حقّ الزوج على امرأته لمَّا سجد له معاذ بن جبل نهاه، فقال: رأيتُ النصارى يسجدون لبطارقتهم، فقال : ((لو كنت آمرًا أحدًا بالسجود لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها))، ويقول مبينًا أيضًا ما للزوج على امرأته: ((إذا أغضبتِ المرأة زوجَها في الدنيا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل، يوشك أن يفارقك إلينا))، ويحذِّر المرأةَ المسلمة من عصيان الزوج فيما يطلب منها من متعة فيقول : ((إذا دعا الرجلُ امرأتَه لفراشه فلم تجبه فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)).
أيها المسلم، إن بتدبّر القرآن والسنة يعلم الزوجُ ما له وما عليه، وإن قيامَ كلٍّ منهما بما يجب عليه هو الذي يحقّق السعادة، وهو الذي يرسي دعائمَ الاستقرار في المنزل، وهو الذي يجعل الأبوين يقومان بالواجب المُلقى عليهما نحوَ أولادهما، فينشأ الولدُ وتنشأ البنتُ نشأةً صالحة بين أبوين مسلمين، محترمًا بعضهم بعضًا، فتنشأ البنت تحترم زوجَها، وينشأ الابن يحترم أمَّه وأباه، وإنما يُصاب النشء بالعُقد النفسية عندما يشاهد الأطفال الأمَّ والأب وما بينهما من شِجار ونزاع وتبادلٍ للتّهم وتراشقٍ بالكلمات البذيئة التي لا خير فيها، ولا تحقِّق خيرًا، وإنما تنشر سوءًا وبلاء، وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلإِنْسَـٰنِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء:53].
فالتعامل بالأخلاق الكريمة بين الزوجين واحترامُ كلٍّ منهما لصاحبه وقيامُ كلّ منهما بالواجب عليه هو الأمر المطلوب من المسلمين، هذا الذي دعا إليه القرآن، وأرشدت إليه سنة المصطفى .
أيها المسلم، إن آدابَ القرآن هي الآداب الحميدة، وهي الآدابُ التي تحقِّق السعادة، فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاستقامةَ على الهدى، والعملَ بهذا القرآن، إنه على كل شيء قدير.
يقول الله جل وعلا: وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِى عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ [البقرة:228].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|