أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إنَّ ربَّنا جلّ جلاله ذكر في كتابه العزيز أخلاقَ المؤمنين، ذكر صفاتِ المؤمنين، ذكرها مادحًا لهم على فعلها، مُثنيًا عليهم، مبيِّنًا الثوابَ الذي أعدَّه لهم في تخلِّقهم بهذه الأخلاق الكريمة، وهي دعوةٌ إلى المسلمين جميعًا لأن يتخلقوا بتلكم الأخلاق، فإن المؤمنَ يقرأ كتابَ الله، ويرى صفاتِ أهلِ الإسلام، فيعمل بها دينًا يدين اللهَ به.
فمن تلكم الأخلاق الكريمة رعايةُ الأمانة، فقد ذكر الله في موضعين من كتابه هذه القضيةَ فقال في سورة "قد أفلح المؤمنون" لما عدَّ صفاتِهم قال في أثنائها: وَٱلَّذِينَ هُمْ لأمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ [المؤمنون:8]، ثم قال: أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْوٰرِثُونَ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ [المؤمنون:10، 11]، وقال في سورة المعارج: وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَـٰدٰتِهِم قَائِمُونَ [المعارج:32، 33]، إلى أن قال: أُوْلَـئِكَ فِى جَنَّـٰتٍ مُّكْرَمُونَ [المعارج:35].
أيها المسلم، إن الأمانةَ في كتاب الله وفي سنة محمد شاملة لما بينك وبين ربك، ولما بينك وبين نفسك، ولما بينك وبين عباد الله عمومًا.
أيها المسلم، وأعظم أمانةٍ اؤتمنتَ عليها دينُ الله وشرعُه الذي لأجله خلقك، وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ [الأعراف:172]، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ٱعْبُدُونِى هَـٰذَا صِرٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:60، 61].
فأنتَ مؤتمنٌ على توحيد الله بإخلاصك لله، وأن يكون إيمانُك إيمانًا قوليًا وعمليًا، ليس كإيمان المنافقين، آمنتْ ألسنتهم وكفرت قلوبُهم، لكن المؤمن صادقُ الإيمان، فإيمانه ظاهر وباطن، وقد ذكر الله عن المنافقين خلافَ ذلك: وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ [البقرة:14].
أيها المسلم، أنتَ مُؤتمنٌ على عبادة الله التي افترضَها وأوجبَها عليك، فأنتَ مؤتمَن عليها كلِّها لتؤدِّيها على الوجه المطلوب؛ لأن الله جلَّ وعلا لا يقبل عملَ عامل إلا إذا كان ذلك العمل خالصًا لوجهه الكريم، وكان ذلك العمل مطابقًا لكتابِ الله وسنة محمدٍ ، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
فالصلوات الخمس التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام أنتَ مؤتمنٌ عليها، مؤتمنٌ على أدائها، مؤتمنٌ على وقتها وأن تؤدّيَها في الوقت الذي أراد الله، مؤتمنٌ على أدائها كاملةً الأركان والواجبات، لتكون صلاةً متقبَّلة بتوفيق من الله، ونبينا يقول: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). كما أنك مؤتمنٌ على وضوئك، ليكون هذا الوضوء وضوءً كاملاً، أسبغتَ الوضوء، وأتممته على الوجه الشرعي، رأى النبي بعضَ أصحابه يتوضؤون وأعقابهم تلوح لم يصبها الماء فنادى بأعلى صوته: ((ويل للأعقاب من النار))، ورأى رجلاً من أصحابه وفي [قدمه] لمعة لم يُصبها الماء فقال: ((ارجع فأحسن وضوءك))، وما ائتمن الله عبدًا على شيء ما ائتمنه على غسل الجنابة. فأنت مؤتمَن على هذه الصلواتِ، فمن حفِظها وحافظ عليها كانت له نورًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا نجاةً ولا برهانًا يوم القيامة.
زكاةُ أموالك الله مؤتمنُك عليها، كان محمد يبعث عمالَه لخرص الحبوب والثمار وزكاة المواشي من الإبل والبقر والغنم، وما كان يسألهم عن زكاة النقدين، بل تلك أمانةٌ بين العبد وبين ربه، والله سيحاسبه عليها، إن أداها الأداء الكامل، وإلا فالحساب غدًا. فأنت مؤتمَن على زكاة مالك، هل أحصيت زكاة مالك؟ هل دقَّقت الحساب؟ هل أوصلتَها إلى مستحقّيها؟ هل كنتَ معتنيًا أم كنتَ مفرّطًا ومهملاً؟
صومُك لرمضان سرٌّ بينك وبين الله، ولمَّا كان كذلك عظُم ثوابُه وجزاؤه، فهو أمانة بين العبد وبين ربه، لا يعلمه إلا الله، لذا جزاؤه جزاءٌ لا يعلم قدره إلا الله؛ لأنه من الصبر، والصبر ليس له جزاء إلا الجنة، إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
حجُّك لبيت الله الحرام [أنت] مؤتمَن على أركان الحج وواجباته، وهل سلم حجك من النواقص أم لا؟ وكل ذلك أمانةٌ بينك وبين ربك.
أنت مؤتمَن على الأبوين ولا سيما عند كبرهما وضعف قوَّتهما وهزالهما واحتياجهما إلى من يرعاهما، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]. فأنت مؤتمَن على أبويك، وأيّ أمانة أعظم من هذه الأمانة، أن ترعاهما وتخدمهما وتقوم بحقهما عند ضعف قوّتهما وعجزهما، فقد وجب حقّهما عليك، فأدِّه أمانةً وديانة.
أولادُك من بنين وبنات هم أمانةٌ في عنقك من حيث التربية والتوجيه، ومن حيث رعايةُ الأخلاق والسلوك، ومن حيث التأكّد من حياتهما وما هي تصرفاتهما على الوجه المرضي، فأنت مؤتمَن عليهما، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. مؤتمَنٌ عليهم في العدل فيما بينهم، وعدم تفضيل بعضهم [على] بعض. مؤتمَن على البنات باختيار الأزواج الأكفاء، وعدم الامتناع عن [تزويج] من هو كفء لها، والقيام بذلك خيرَ قيام.
أنت مؤتَمن ـ أيها المسلم ـ على رحمك من حيث الصلة، والقيام بالواجب، ورعاية حقّ الرحم، وسدّ حاجته، وجبر نقصه، فذاك أمانة؛ لأن الله يقول: يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ [النساء:1].
أيها المسلم، تعامُلك مع عباد الله أمانةٌ في عنقك، فالله سائلك عن ذلك، إن كنتَ من أهل البيع وأرباب التجارة فالله سائلُك ومؤتمنك على تجارتك، الله قد ائتمنك على هذا، وسيسألك عن هذه الأمانة يوم لقاه. [أنت] مؤتمَن في تجارتك، هل كانت تلك التجارة تجارةً مباحةً شرعًا، أمورًا أباحها الشرع، أم تجارتك تجارةُ محرماتٍ قد حاربها الشرع؟ هل أنت تتَّجر بالأموال الطيبة والأموال المباحة، أم تجارتك في مخدرات ومسكرات، تروِّجها وتدعو إليها، وتنشرها بين أفراد المجتمع، وتتستَّر على المجرمين وتكون عونًا لهم على إجرامهم فتكون خائنًا لأمانتك؟ أنت مؤتمن، هل السلع التي تقدّمها للمشترين سلعٌ لا يزال وقتُ الانتفاع بها كالمواد الغذائية، أم أنها قد انتهى فصلها، وانتهى العمل بها، وأصبح لا خير فيها، فأنت مؤتمن إن قدمت للناس أمرًا يُخالف فإنك خائن لأمانتك، ولذا النبي يقول: ((من غشنا فليس منا))، ويقول في البيِّعين: ((فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقَت بركة بيعهما)). فأنت ـ أيها التاجر ـ مؤتمَن، ما هذه السلع التي قدَّمتها؟ هل كنت صادقًا في حقيقتها، أم كنت خادعًا ومفتريًا عليهم، ومخبرًا لهم بخلاف الواقع؟
أنت مؤتمَن على المال الذي بينك وبين شركائك، فيد الله مع الشريكين ما لم يخن أحدُهما صاحبَه، فإن خان أحدهما صاحبَه رفَع الله يدَه عنهما وجاء الشيطان.
أنت مؤتمَن على ما استأجرت من عقار، هل أنت أدَّيتَ الحقّ؟ بمعنى راعيتَ تلك الأمانة، فخرجت مما استأجرته والدار أو المتجَر سليم من كل عيب، أم استغللت وجودَك فيه، فأسأت للمالك، وأفسدتَ من غير رعاية للأمانة.
أنت مؤتمَن على ما اؤتمِنت عليه من أموالِ وصايا وأوقاف، هل قمتَ بالحق الواجب فيها، وأعطيتَ كلّ ذي حقّ حقه، أم كنت غاشًا وكاذبًا ومخبرًا بخلاف الواقع؟
أنت مؤتَمن على التركة التي عُهد إليك توزيعُها، فهل أدَّيتَ الحقّ فيها، وأعطيتَ كلّ ذي حقّ حقّه، أم كتمتَ وأخفيتَ وخنت الأمانة؟
أيها المسلم، زوجتُك أمانةٌ في عنقك، من حيث القيامُ بحقّها نفقةً وكسوة ورعاية، والقيام بحقها والتعامل معها بالمعروف على حدّ قوله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ [النساء:19].
الشهادةُ التي تؤدِّيها أنت مؤتمَن عليها، هل كنتَ صادقًا فيما شهدتَ به أم كنت كاذبًا؟ ولذا قال الله: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَـٰدٰتِهِم قَائِمُونَ [المعارج:33]، والقيام بها أن تكون الشهادةُ إخبارًا عن الواقع حقًا، لا زيادةَ ولا نقصان فيها، فإنك إذا أخبرت على خلاف الواقع كنتَ شاهدَ زور، متحملاً الإثم والعدوان، فاتق الله في شهادتك، واشهد بالحق وإلا فأمسك، إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86].
أيها المسلم، إنّها أمانةٌ في كل شؤون الحياة، إن [المتولّين] التحقيقات في الأشياء هم مؤتمنون على ما يقدّمونه من تحقيق، فإن كانت تلك التحقيقات سليمة، سلكوا فيها المسلك الشرعي، فقد أدَّوا الأمانة، وإن خانوا فيما يقدِّمونه من أوراق، وكذبوا ودلّسوا وحاولوا الخداع، فالله سائلهم عن ذلك، ويكون ذلك خيانة في أماناتهم.
الموظفُ في وظيفتِه مؤتمنٌ على وظيفته، أداءً ووقتًا، مؤتَمَن على ذلك غايةَ الائتمان، فإن اتقى الله في عمله وأدَّاه على الوجه المطلوب وأنجز حاجات الناس كان ممن أدَّى الأمانة، وإن خان وخادع وتهاون بالعمل وجامل الناس وراعى هذا وأضرّ بهذا ونفع هذا على غير وجه شرعي إنما يمليه الهوى والعياذ بالله، فتلك خيانة للأمانة.
فالمهمُّ أن الأمانةَ أمرٌ عظيم شامل لأمر الدنيا والآخرة، فالمسلم يرعى هذه الأمانة حقَّ رعايتها، فإن المؤمنين حقًا هم الصادقون في أماناتهم، المتقون لله في أماناتهم، المراقبون لله في تصرّفاتهم، فهم المؤمنون حقًا.
إن هذا هو الواجب على المؤمن، ليكون الإيمان إيمانًا صادقًا فلا يكفي قولٌ بلا اعتقاد، ولا اعتقاد بلا عمل، بل لا بدّ من اعتقادٍ وقول وعمل، ليكون المؤمن صادقًا في أحواله كلها.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن أدَّى الأمانةَ على وجهها، وأعاذنا الله وإياكم من الخيانة بكلِّ صورها، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|