أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عبادَ الله، إن الله جل جلاله موصوفٌ بكل صفاتِ الكمال والجلال، منزَّهٌ عن صفات العيوب والنقائص، وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأعْلَىٰ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ [النحل:60]. فكل صفاته كمالٌ، وكل عيب أو نقص فالله منزَّه عنه ومبرَّأُ عنه، جلَّ ربًا وتقدَّس إلهً ومعبودًا.
فمن كمال عدله جل جلاله أنَّه حرَّم الظلم على نفسه، وجعل هذا الظلمَ محرمًا بين عباده، في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرمت الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا))، وقد جاءت نصوصُ القرآن لتنفي عن الله هذا النقصَ والعيب، قال تعالى: وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّـٰلِمِينَ [الزخرف:76]، وقال: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وقال: وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لّلْعَـٰلَمِينَ [آل عمران:108]، وقال: إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئًا وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44].
أيها الإخوة، إن الظلمَ في كتاب وفي سنة رسوله دائرٌ بين أمور ثلاثة:
فأعظمُ الظلم وأكبره وأشدّه إثمًا ظلمُ المشرك، فإن العابدَ لغير الله الذي صرف أنواعَ العبادة كلها أو بعضها لغير الله قد أتى بأعظم الظلم وأكبر الظلم؛ إذ [العبودية] على الحقيقة إفرادُ الله بجميع أنواع العبادة، فالدعاءُ خالصٌ لله، والذبح خالص لله، والنذر خالص لله، والخوف الحقيقي من الله، والرجاء الحقيقي لله، وكل أنواع العبادة حقٌّ لربنا جل جلاله، لا يجوز أن يُصرف منها شيء لغير الله، وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وقال: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ [الزمر:65، 66]، وقال لقمان لابنه في وصيته له كما أخبر الله في كتابه: يٰبُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، حقًا إنه ظلم، وإن هذا الظلمَ عظيم، إذ الظلمُ حقيقته وضعُ الشيء في غير موضعه، وأيّ ظلم أعظم من أن تصرف الحقَّ الواجبَ لله إلى مخلوق مثلك، إلى ميت وغائب لا يدري ولا يعلم شيئًا؟! وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَـٰفِلُونَ [الأحقاف:5]، إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
فالشرك أعظم ظلمٍ وأكبر الظلمِ وأشدُّه، ولهذا يحبط كلَّ الأعمال، ولا يمكن لأيِّ عملٍ أن يصلح مع الشرك، ولا يقبل الله من مشرك عملاً مطلقًا، بل كلّ أعماله مهما عظمت فإن الله يقول لها كوني هباءً منثورًا، وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان:23].
ونوعٌ من الظلم، ظلمُ العبد نفسَه، بتضييع بعض أوامر الله، وارتكاب بعض نواهي الله، فإنَّ هذا ظلمٌ منك لنفسك أيها المسلم، ظلمُك لنفسك أن تعصيَ الله، أن تعطِّل بعضَ فرائض الإسلام، أن ترتكب بعضَ ما حرَّم الله عليك، فتكون بذلك ظالمًا لنفسك؛ لأن الواجبَ عليك طاعةُ الله، وتزكية نفسك بالعمل الصالح، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـٰهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـٰهَا [الشمس:9، 10]، فظلمُك لنفسك بترك واجبٍ أو فعل محرم ظلمتَ نفسك وأسأت إليها، وفي الحديث: (([كلُّ الناس] يغدو، فبائعٌ نفسَه فمعتقها أو موبقها)).
وإذا سلم المسلم من ظلم الشرك ومن ظلم العباد ومن ظلم نفسه كان من الآمنين يوم القيامة، ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]. فكـن ـ يا عبد الله ـ حريصًا على تزكية نفسك، بعيدًا عن أن تظلمَها بمعاصي الله، أنقذْها من عذاب الله، وخلِّصها من سخط الله ما دمت في هذه الدنيا وباب التوبة مفتوح لك.
ومن أنواع الظلم ظلمُ العباد بعضِهم لبعض، في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فإن ظلم العباد ظلمات يوم القيامة، ظلمُك أخاك المسلم بظلمه في عرضه، أو ظلمه في دمه، أو ظلمِه في ماله، فذاك من أنواع الظلم، فحاول التخلصَ منها ما دمت في هذه الدنيا. وقد حذرنا نبينا من أن يظلم بعضنا بعضًا، أو يؤذيَ بعضنا بعضًا، يقول : ((اتقوا الظلمَ؛ فإن الظلمَ ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُحَّ؛ فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءَهم واستحلّوا محارمهم))، وقال أيضًا: ((الظلم ظلماتٌ يوم القيامة)). أسعدُ الخلق في هذه الدنيا من لقي الله وقد خلصَ من ظلم العباد، من لقي الله ولم تتعلَّق به مظلمةٌ للعباد، لا في دمٍ ولا في مال ولا في عرض، فتسلم حسناتُه، وينتفع بها في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أيها المسلم، اعلم أن الظلمَ في هذه الدنيا لن يضيع، وسوف يكون الحسابُ من حسناتك يومَ القيامة، إنْ لم تخلِّص نفسَك من ظلم العباد في الدنيا فتكون المقاصّة من أعمالك الصالحة، فإن انقضت أعمالك قبل استيفاء المظالم منك حملْت خطايا وسيئات الآخرين، فما أعظمَ الخسارة في ذلك اليوم العظيم، يقول محذرًا المسلم من الظلم: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يكذبه ولا يخذله))، ويقول مرشدًا المسلم إلى أن يتخلَّص من ظلمِ العباد في الدنيا، يقول : ((من كانت له عند أخيه مظلمةٌ من عرض أو غيره فليتحللْ منه اليومَ قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن يكن له حسنات أُخذ من حسناته، فإن لم يفِ ما عليه أُخذ من سيئات صاحبه وحُمِّله))، ويقول أيضًا يومًا لأصحابه: ((أتدرون من المفلس فيكم؟!)) قالوا: المفلس فينا من لا دينار له ولا متاع، لأننا نسمي مفلسًا لقلة ماله، فقال : ((ولكنَّ المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمال صالحة، من صلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وضربَ هذا، وأكل مالَ هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن انقضت حسناته قبل أن يوفّي ما عليه أُخذ من خطاياهم فحمِّل عليه ثم دخل النار)). هذا هو الإفلاس الحقيقي، أن يكون لك أعمال صالحة، صليتَ وصُمتَ وزكيتَ وحججت وبررت بالوالدين وقمت بالواجب، لكنك ظلمتَ عبادَ الله في أموالهم، أكلتَ أموالهم ظلمًا وعدوانًا، تسلطتَ عليهم بلسانك فجرَّحتهم وقذفتهم، وقلت فيهم ما الله يعلم أنهم برآء منه، سفكتَ دمًا حرامًا، أعنتَ على ظلم مسلمٍ بقول أو عمل، سعيتَ بكل وسيلة في إلحاق الظلم والأذى بالمسلم، حُلت بينه وبين حقوقِه، قلت فيه ما ليس فيه، فاعلم أنه سيمكَّن من حسناتك يومَ القيامة، وكلّ فرد منا في ذلك اليوم بحاجة إلى مثقال ذرة من خير، ليرجح بها ميزانه، فَمَن ثَقُلَتْ مَوٰزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوٰزِينُهُ فأُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـٰلِدُونَ [المؤمنون:102، 103].
أيها المسلم، وإن أنواعَ الظلم جاء في القرآن والسنة شيءٌ منها، تحذيرًا للمسلم وإرشادًا له في البعد عن مظالم العباد، ولمَّا بيَّن الله جل وعلا في كتابه أن المرأة لا يجوز استرجاع شيء من مهرها الذي دفعه الزوج إليها إلا أن يكون هناك سببٌ يمنعهما القيامَ بحقوق الله فأعقب ذلك بقوله: إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ [البقرة:229]، فوصف الزوجَ الذي يضارّ المرأةَ باسترجاع مهرها، إذا لم يحصل بينهما توفيق، ولم يكن من المرأة أيّ ضرر، وإنما الأمر راجعٌ للزوج أنَّ استرجاعَه ما دفع للمرأة ظلمٌ منه لها؛ لأنه أخذَه بغير حق؛ إذ هي استحقَّت كلَّ ما دفع إليها، لدخوله عليها واستحلاله فرجَها، فإن أراد أن يعودَ في ذلك بلا سبب كائن منها كان ظالمًا، وما أخذه حرامٌ في حقه. ولما حرم الربا وصفه بالظلم فقال: وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، فجعل الربا ظلما؛ لأنه أخذُ مالٍ بغير حق؛ إذ المرابي إن لم ينفع فلا يجوز له أن يضرَّ، ولا يحمِّل الإنسانَ ما لا يستحق، فسمَّى الله ذلك ظلمًا. وقد وصف الله جل وعلا أكلَ مال اليتيم بالظلم فقال: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]. وأخبر تعالى أنَّ أكلَ أموال الناس وقتلَ الإنسان نفسَه نوعٌ من الظلم فقال: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰنًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]. ووصف السارقَ بأنه ظالم؛ لأنه أخذ مالاً بغير حق قال: وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَـٰلاً مّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:28، 29]، فجعل سارق المال ظالمًا؛ لأنه أخذ مالاً بغير حق، فهو ظالم بذلك. ووصف الحاكمَ بغير شرعه بأنَّه من الظالمين فقال: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ [المائدة:45]؛ لأن أحكامَ غير شريعة الله كلّها ظلمٌ وجور، وإعطاء الحق لغير مستحقّه، فهي خالية من العدل، بعيدةٌ عن العدل؛ إذ العدلُ شرعُه الذي بعث به نبيَّه محمدًا .
أيها المسلم، ومن أنواع الظلم مماطلةُ من عليه الحقِّ للغير، فلا يُعطي ما عليه من الحقوق، يقول : ((مطلُ الغنيّ ظلمٌ يحلُّ عرضَه وعقوبته))، أي: من عليه حقّ للآخرين، فأخر الوفاء مع القدرة على ذلك، فإنه ظالم لذلك المسلم، حابسٌ مالَه بغير حق، أما المعذور الذي لا شيء عنده فالله يقول: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فظلمُك من له حقٌّ عليك، وتأخيرك الوفاءَ بلا سبب، هذا ظلمٌ منك للمسلم؛ إذ أخَّرتَ الوفاء وأنت قادر على ذلك.
ومِن أنواع الظلم أيضًا ظلمُ الشريك لشريكه، وعدمُ الاعتراف بالحقوق، وفي الحديث: ((يقول الله: أنا ثالث الشريكين ما لم يخُن أحدُهما صاحبَه، فإن خانه رفعتُ يدي، وجاء الشيطان)).
ومن أنواع الظلم اقتطاعُ مال مسلم بغير حق، يقول : ((من اقتطع شبرًا من الأرض طُوِّقه يومَ القيامة من سبع أرضين)).
ومن أنواع الظلم تفضيلُ بعض الأولاد على بعضٍ لأجل الهوى وطاعةِ من ليس في طاعتِه خير، يقول النبي وقد طُلب منه أن يشهدَ على تفضيل بعض الأولاد على بعض: ((اتقوا الله واعدِلوا بين أولادكم))، وقال: ((أشهِدْ على هذا غيري))، وقال: ((إني لا أشهَد على جَور))، فجعل تفضيلَ بعض الأولاد على بعضٍ جورًا، وامتنع عن الشهادة عليه .
ومن أنواع الظلم السخريةُ بالمسلمين، واحتقارُهم وازدراؤهم بالقول والفعل، يقول الله جل وعلا: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَـٰبِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ [الحجرات:11]، فسمَّى الساخرين والعائبين والمنتقصين لإخوانهم سماهم ظلمة؛ لأنَّ هذا ظلمٌ منك لأخيك، إذ الواجب إكرامُه والكفّ عن إلحاق الأذى به، وحمدُ الله على ما أنت فيه من نعمة، وسؤال الله العافية للجميع.
أيها المسلم، ومن أنواع الظلم شهادة الزور، فشاهدُ الزور ظالمٌ لنفسه، حمَّلها الأوزارَ والآثام، وظلمَ أيضًا من شهدَ له، فقد أعانه على الإثم والعدوان، وظلم من شهِد عليه، فقد سعى في اقتطاع ماله وحقه بلا مبرِّر، وهذا أيضًا من أنواع الظلم.
فليتق المسلم ربه في ظلمه لعباد الله، وليحذر عواقب الظلم ونتائجَه السيئة، وليتدبَّر في حياته، فلا خير في حياة كلّها ظلمٌ للعباد، تخلَّص من حقوق العباد، وأبرئ الذمة منها ما استطعتَ لذلك سبيلاً، انظُر في أمرك، وتفكَّر في واقعك.
ويا من له مع الناس معاملةٌ ارتباطٌ تجاري، خلِّص نفسك اليوم، قبل أن تلقى الله بتبعة العباد، ينساها الناس ويغفلون عنها، والله محصيها عليك يوم القيامة، أَحْصَـٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، لا تغرّنّك قوتُك ولا قدرتك ولا مهارتك في الأمور، ولكن راقبِ الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، راقبِ الله في كلّ أحوالك، واعلم أنّ قدرتَك على ظلم العباد بأيّ الطرق كانت لا تغني عنك شيئًا، فالحزم كل الحزم أن تخلِّص ذمّتك من ظلم العباد، هذا هو الحزم والعقل والإدراك، وأما التحايل على ظلم الناس وبذلُ كلّ الوسائل واستعمال الذكاء والخداع، فذاك لا يغني عند الله شيئًا، فإياك أن تظلم الناس في أموالهم، إياك أن تنتهك أعراضَهم، إياك أن ترميَهم بما هم برآء منه، إياك أن تسعى في سفك دمائهم، إياك أن تشهدَ عليهم بباطل وتقول عليهم ما ليس فيهم، فإن هذا إيذاءٌ للمؤمنين، وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَـٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|