وبعد: عباد الله، فإن خير الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وقد قال تعالى: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272].
في هذه الآية يمدح الله تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله، وهم بذلك لا يبتغون إلا مرضاة الله، بل وعد الله ـ ووعده الحق ـ بأنه يخلف للمنفق جزاء لما أنفقه في سبيله: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39] أي: مهما أنفقتم من شيء فيها أمركم به وأباحه لكم فهو يخلفه لكم بالبدل في الدنيا، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث القدسي عن أبي هريرة قال: قال : ((يقول الله تعالى: أنفق أُنِفِق عليك))، وعن عبد الرحمن بن عوف قال: قال : ((ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال قط من صدقة فتصدقوا)) الحديث.
وفي معرض المدح والثناء يمدح الله عباده المؤمنين: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8] أي: يطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له، لم يفعلون هذا؟ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:9]. قال سعيد بن جبير: "أما والله، ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب".
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:10] أي: إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه في يوم عبوس قمطرير.
وكذلك فإن الصادق الأمين النبي الكريم لم يكن ليخير بين الدنيا والآخرة إلا اختار الآخرة، حتى إنه ثبت عنه أنه قال كما في الصحيح: ((يا أبا ذر، أتبصر أُحُدًا؟))، قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله يرسلني في حاجة له، قلت: نعم، قال: ((ما أحبّ أن لي مثل أحُدٍ ذهبًا أنفقت كلّه إلا ثلاثة دنانير، وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا. لا والله، لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله)).
وعن أنس قال: ما سئل رسول الله على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
ولم يكن الصحابة عن هذا ببعيد، حيث فهموا وعقلوا هذه المعاني جيدًا، كيف لا وهم تربوا وترعرعوا في مدرسة النبوة؟!
من هذا المقام ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها ـ يا رسول الله ـ حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله : ((بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين))، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وعن ثوبان مولى رسول الله قال: قال : ((أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله عز وجل))، وعن أبي هريرة قال: قال : ((أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك سرورًا، أو تقضي عنه دينًا، أو تطعمه خبزًا)).
ولما علم الصحابة هذا كانوا أسرع الناس عملاً به وعملاً بقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، وبما قاله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
جاء رجل إلى النبي فقال: هذه الناقة في سبيل الله، قال: ((لك بها سبعمائة ناقة مخطومة في الجنة)). سبحان الله! الادخار ليوم الجزاء، وما أعظمه من ادخار.
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:11].
وعن أبي هريرة قال: قال : ((بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتًا في سحابة يقول: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجه قد استوعب ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: فلان ـ للاسم الذي سمع في السحابة ـ فقال له: يا عبد الله، لم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إنك قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأرد فيها ثلثًا)).
وبعد: فاتق الله يا عبد الله، واتق النار، واجعل بينك وبينها حجابًا ولو بشق تمرة، ولنتذكر ذلك اليوم العظيم، لنتذكر أهوال القبور والبعث والنشور، يوم تدنو الشمس من الرؤوس، وحينها لا ظل ولا شجر ولا أي شيء إلا ظل واحد، ألا وهو ظل الله، وحيث يغرق البعض في عرقه، والآخر يتمنى ولو نسمة خفيفة تخفف عنه شدة الحر، فينادي المولى برحمته وفضله وعدله بعض الناس ليستظلوا في ظله يوم لا يظل إلا ظله، كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه قال: قال : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه))، فـ((لا تحقرن من المعروف شيئًا))، رب عمل صغير قليل بسيط قد نحتقره لكنه عند الله عظيم، عن الزبير بن العوام قال: قال : ((من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل))، والخبء هو المدخر. أسأل الله أن يوفقنا لما فيه الخير والصلاح.
ولعلنا نختم ـ عباد الله ـ خطبتنا بحديث عظيم، ولنستمع إليه عباد الله، فعن أبي ذر الغفاري قال: قال : ((يا أبا ذر، أترى أن كثرة المال هو الغنى؟! إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا، وإنما يضر نفسه شحها)).
ولذلك فإنك تجد الغني الشاكر ينفق في سبيل الله وهو فرح مسرور بما يعمله، متيقن بأن ما عند الله خير وأبقى، والفقير الشاكر صابر ويحمد الله على كل حال؛ لأنه يعلم أن الآخرة خير من الأولى، فكم ممن عاش فقيرًا في الدنيا وفي ضيق من العيش والمسكن لكنه صبر وحمد الله، وانتقل إلى الدار الآخرة، فوسع له في قبره وأبدله الله بدار خير من داره، ومن الضيق إلى الرغد والجنة حيث الخلود، وكم ممن عاش في رغد من العيش وترف وسعة في المال، لكنه لم يعرف قدر تلك النعم إلا لما انتقل إلى دار الجزاء، فأبدل بذلك الوسع بالضيق ونكد العيش. فلا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق، ولو بشق تمرة، ولو بالكلمة الطيبة.
|