أما بعد: إن البشر هم الذين يرسمون الخطوط العامة لمعالم التاريخ، وإن البشر هم الذين يغيرون وجه التاريخ بحسب المنهج الذي معهم وبحسب التصورات التي يحملونها، فإن كان في تصوراتهم غبش وفي منهجهم انحراف يكون التغيير الذي يحدثونه تغييرًا سيئًا مخالفا لما أراد الله عز وجل، وبالعكس إذا كان ما يحملون من تصورات موافقا لمنهج أهل السنة والجماعة فأبشر بمجتمع طالما اشتاقت لها النفوس المؤمنة.
أيها المسلمون، إن الواحد منا وهو يقلب النظر في حالة هذه الأمة وما بُليت به لتهفو نفسه وتتطلع إلى رؤية ذلك المجتمع الأول الذي كان بالفعل يمثل القمة الشامخة في تاريخ الإنسانية. ذلك المجتمع الذي عاش بين ظهرانيه رسول الله ، القدوة الأولى لهذه الأمة، ثم بدأت نقطة التحول الأولى من اللحظة التي اختار فيه النبي الكريم ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ لقاء ربه على هذه الدنيا الفانية، يوم عبّر عن ذلك الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه بقوله: (وإنا لفي الدفن حتى أنكرنا قلوبنا).
ولكن هذا التحول لم يكن ليستمر مع وجود النخبة المصطفاة الذين رباهم النبي على عينيه، فكانت الخلافة الراشدة، الزمام الذي حفظ الله به لهذه الأمة استقامتها على ذلك المنهج القرآني الفريد.
وفي أواخر عهد الخلفاء الراشدين حصل شيء من التغيير، حيث أصيبت وحدة العقيدة بصدع عظيم من جراء ظهور البدع، فظهرت الخوارج والمرجئة والقدرية والرافضة، فكادت هذه الفرق أن تشتت وحدة الأمة لولا أن الله جل وتعالى قيض لهؤلاء المبتدعة من يصد شرهم ويفند أباطيلهم، ويظهر راية السنة منشورة شامخة.
وبعد انقضاء القرون الثلاثة التي شهد لها النبي بالفضل دخلت الأمة مرحلة أخرى من التغيير، دخلت في مرحلة أقل في الفضل بكثير من سابقتها، غير أنه لم يزل الخير غالبًا فيها، إذ يسر الله لها من الخلفاء العظام من اجتهد أن يعيدها سيرتها الأولى، حتى بلغت مرحلة من السيادة كانت فيها حديث العالم أجمع، حيث كان في الخلفاء قوة وتمسك بالحق وعناية بالجهاد واهتمام بالعلم ومناصرة السنة وقمع البدعة، فاستغلّوا خيرات البلاد وثرواتها في الفتوح والدعوة إلى سبيل الله، حتى اتسعت رقعة العالم الإسلامي، فوصلت الفتوحات في عهد الخلافة العثمانية إلى إيطاليا والمجر وألبانيا، فهزت جيوش المسلمين عروش ملوك أوربا، وفتحت القسطنطينية، واستولت على كثير من جزر البحر الأبيض المتوسط، وسيطرت على الملاحة البحرية فيها، ولم يبق من هذا المجد إلا الذكرى الذي عبر عنه الشاعر وهو يقول:
يـا من ينوح فؤادي خلف موكبه ومن ترفرف روحي حول مغنـاه
مـاذا تركت بقلبي بعدما نسجت كف الخريـف له حرّى بلايـاه
هلا ذكرت زمـانًا ظل يسعدنـا نقضى حياة المنى فِي ظل دنيـاه
تسعـى إلينـا الأمـاني في ظلاله وتستخـف بنـا أحلام دنيـاه
مـا زلـت أذكره في كـل آونة رغم الصدود وأنت اليوم تنساه
ثم كان ما كان، يوم سقطت الخلافة، أو قل: أُسقطت الخلافة، وانتفشت العلمانية، وحورب الدين، وتمزق العالم الإسلامي إلى دويلات، كل حزب بما لديهم فرحون، ثم سادت النظريات الإلحادية، ووزعت ثروات الأمة وخيراتها على غير أبنائها، وحصل للأمة ما يعلم كل أحد من خلال دراسة التاريخ، نكبات، دويلات وخيانات، حتى أصبح الضعف والتخلف سمة من السمات المميزة للأمة في الوقت الحاضر، وصار يطلق غيرها عليها: الدول النامية والعالم الثالث، وغيرها من الألقاب التي يجب أن تؤثر فيها ولا ترضى بها وتسعى جاهدة في تغييرها.
أيها المسلمون، بعد هذه المقدمة القصيرة نصل إلى قناعة، إلى أن الواقع يحتاج إلى تغيير، وأن هذا التغيير لا يقوم إلا بجهد، وهذا الجهد لا يكون إلا بالبشر أنفسهم، ومن قلب هذه الأمة لا من خارجها، فهم الذين يباشرون التغيير وذلك بعد مشيئة الله عز وجل، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
إن كل مجتمع لا بد له من قيادة، وكل جيل لا بد له من موجهين ومنظرين، هناك فئة هم أصحاب التأثير في كل وسط، وعليك أن تتخيل ـ أخي المسلم ـ حالة مجتمع أصحاب التأثير فيه والموجهون فيه والرموز التي ينظر إليها الناس ويعجبون بهم هم الرياضيون ولاعبو الكرة، هل يمكن لهذا الوسط أو لهذا المجتمع أن يقدم خيرًا لأمته، أو أن يغير واقعًا، أو أن يدفع ظلمًا لحق ببعض أبنائه في أرض البلقان أو أرض الأفعان أو أرض الصومال أو غيرها من أراضي الله الواسعة؟! أو عليك أن تتخيل مجتمعًا أو وسطا أصحاب التأثير فيه هم زمرة من الشهوانيين، لا يفكرون إلا في الكأس والمرأة سافرة متبرجة، إما خلف مقود سيارة أو على مدرجات الملاعب أو خلف طاولات العمل، تستقبل الناس في فندق أو مستشفى أو غيرها من الأماكن، كيف يكون حال هذا المجتمع؟! وإلى أي مستوى من التغيير يمكن أن يصل؟! هل تتصور أن هذا الوسط الذي هذه قيادته وهؤلاء أصحاب النفوذ فيه أن يقدّم خيرًا لأمته، أو أن يغير واقعًا، أو أن يساهم في إقامة مصنع، أو تنشيط تجارة على الأقل، فضلاً عن التفكير في أصعب الأمور والعمل لأجلها لرفع مستوى البلد ثقافيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا؟!
لا شك أن القيادة والتوجيه ومن بيده اتخاذ القرار لو كان من هذه الفئة وهي فئة الشهوانيين أيًا كان اتجاه هذه الشهوة فإنك سترى المنكر علنًا في ذلك الوسط، وسترى التميّع والتخنث في الشوارع والأسواق والشواطئ، وسترى قلة الحياء، ولا يُستغرب إذا رأيت بعد فترة كتل اللحم أمام ناظريك، لحم الأرجل والسيقان والظهور، وسيصل إلى الصدور والنحور إذا لم يتغمد الله عز وجل ذلك المجتمع برحمته.
وستسمع وسترى عبر وسائل الإعلام في ذلك المجتمع الطرب واللهو والغناء الفاحش، وكل ما يزيد من سعار الشهوة ويلهب من وهجها؛ لأن الذي يعدّ البرامج والذي يفكر ويخطّط لهذه الوسائل رجل الشهوة، فكيف بعد كل هذا يتربى الناس؟! وعلى ماذا يكبرون؟! وما الثقافة التي ستصل إلى أدمغتهم؟! إنك قليلاً ما تشاهد أو تسمع في مجتمع الشهوة برنامجًا جادًا أو حلقة علمية نافعة، حتى بعض الفقرات النافعة أو الجادة في تلك البرامج لا بد من إقحام العنصر النسوي فيها، فالسؤال الآن: هل يمكن لمجتمعٍ أصحابُ القرار فيه هم رجال الشهوة أن يقدم هؤلاء خيرًا للأمة؟!
أوْ عليك أن تتخيّل مجتمعًا أو وسطًا ما أصحاب النفوذ وأصحاب التأثير فيه ومفكروها أناس أبغض ما لديهم الدين، وأكثر ما يزعجهم أحكام الشريعة، يحاولون جادين في إبعاد الدين عن واقع الحياة، ويحاولون إقناع الناس بأن الدين عبارة عن علاقة بين الإنسان وربه، أما الأمور الأخرى، أما العلاقات والقضايا الاجتماعية والحياة الأسرية، فضلاً عن الوظيفة والتجارة، فهذه لا بأس أن تأخذ من أية فكرة أو أي تصور يراه المجتمع صالحًا ونافعًا. كيف يكون حال هذا الوسط؟! وإلى أي درجة سيصل هذا المجتمع؟!
سوف ينتشر بين الناس التفكير المادي والنظرة المادية؛ لأن العناصر القيادية في ذلك المجتمع سيسخِّر إعلامه لإقناع الناس بهذا النمط من التفكير، ولا شك أن الناس سوف تتأثر تدريجيًا، فتقسو القلوب؛ لأنها لا تسمع وعظًا ولا تذكيرًا، بل حتى المُسلَّمات الغيبية عن الناس يأتي من يشكّك فيها، فلا يُستغرب في ذلك المجتمع التي هذه قيادته أن تقرأ في بعض صحفها السيارة أو مجلاتها الأنيقة من يكتب مقالاً حول قضية شرعية عقدية لا نقاش فيها ولا جدال، وغالبًا المقالات الأولى من هذا النوع تكون مقالات عامة وملتوية وبعيدة عن الوضوح، وتكون عبارة عن جسّ نبض الفئة الصالحة في ذلك الوسط، وعبارة عن تجربة لمدى تقبّل الناس في ذلك المجتمع لمثل هذه الكتابات أو هذا الكلام، لو كانت مقابلة شخصية مع أحد رموز هذا التيار.
فإذا لم يظهر رد على هذا المقال ولم تحصل بلبلة فهذا مؤشر إلى تهيؤ المجتمع لمثل هذه الكتابات أو لبثّ هذه الأفكار، فيأتي المقال الثاني لكن بجرعة أكبر، ويزاد فيها نسبة السم، هكذا فالسؤال الآن: هل لهذا الوسط الذي أصحاب التفكير فيه بهذا الاتجاه أن يشارك في تقديم نفع لأمته؟! هل لمجتمعٍ أصحابُ التأثير فيه مُتفلِّتون من تكاليف الدين أن يشارك في آلام الأمة، أو أن يقدم يدَ المساعدة والعون ليتيمٍ أو أرملة في بقاع الله الواسعة لمجرد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟! هل يتأثر؟! بالتأكيد أنه لا يتأثر؛ لأنه لو بيده لسحق كلّ من يتلفظ بهذه الكلمة، لكن أنَّى لمثل هؤلاء المرتَزقة أن يحقّقوا مآربهم، والله جل وتعالى سيفضحهم، ويخيب آمالهم، وسيعلو دين الله عز وجل، رضي من رضي، وسخط من سخط.
أيها المسلمون، نريد أن نصل بعد هذا كله إلى أن المجتمع الذي يظهر فيه شيء مما ذكر فإن واقع ذلك المجتمع يحتاج إلى تغيير، وليعلم بأن التغيير مرتبط بمقدار الجهد المبذول، فإذا تحرك أصحاب التصور السليم كان التغيير سليمًا، وإذا تحرك بعض أصحاب المبادئ التي ذكرت قبل قليل كان التغيير لصالحهم، كما قال تعالى: كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء:20].
فنسأل الله عز وجل أن يهيئَ لهذه الأمة من يأخذ بيدها إلى برّ الأمان، وأن يعجّل فرَجَها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
|