أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله، فإنَّ تقواه أفضل مكتسب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلمون، يعظم الكَيدُ في آخرِ الزَّمان، وتتواصَى قوَى الباطلِ والطّغيان، وتشتدُّ الغربة على أهل التقوى والإيمانِ، غربةُ أديان لا غربةُ أوطان، ولكلِّ شيءٍ عَلَمٌ، وعَلَمُ الخذلان ركوبُ المجونِِ والعِصيان. وتحصلُ غربةُ الإسلام بنقصِه ونقضه وتركِه وهَجْرِه وتهوين أمره وإهمال نصرِه والرِّقّة والتجوّزِ فيه والاستهانة بحرُماته وغلَبة الوقوع في الكبائر والتساهل إلى حدِّ الفسوق والتفلّتِ الأخلاقيّ والفساد والاجتماعيِّ والسلوكيّ وخَرْق هيبةِ الشرع ونظامِ الدين والمجاهرةِ بقبائِحِ الأفعال وفِعل ما لا يسوغ في دينِ الإسلام وغلَبَة أهل الباطل وظهورِ أهلِ الخنا والفجور واندراس شعيرةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا يبقى منها إلا رسومٌ واتِّباعِ الأهواءِ المضِلّة والأغراض الفاسدة والأقوال الشّاذّة وزلل المفتِينَ ورخَصِ المتساهِلين ومقابلةِ نصوص الكتاب والسنة ونَقض محالِّ الإجماع بقَعقَعة التأويل وجَعجَعة الإصلاح والتغيير وفرقعةِ الانفتاح والتنوير.
فلسفاتٌ فارغة من الدين، حاكَها الرُّعْنُ المنافقون، وصاغَها الهُوجُ المبطلون، سرايا إبلِيس، وأعداءُ العفَّة والفضيلة، وخصومُ الإسلام، ودُعاة التحلُّل والفجور والغِواية، وصدق رسول الهدى : ((بدَأ الإسلامُ غريبًا، وسيَعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء)) أخرجه مسلم. طوبَاك أيّها المتمسِّك بكتاب الله في زمن الفتن، طوباك أيّها العامِلُ بسنّة النبيِّ الأكرَم محمّدٍ في عصر المحن.
أيّها المسلمون، إنّ نبتَةَ اغتراب الدينِ في أوطانِ المسلمين الإجهارُ والإظهار بالمَعَاصي والأوزار والتغاضي عن العُصاة المبايِنين والفسَّاق المستعلِنين والإدهانُ لهم والملايَنَة معهم ومصانَعَتُهم على حِساب العقيدة والشريعة والدين. قال ابن بطّالٍ رحمه الله تعالى: "في الجهرِ بالمعصيةِ استخفافٌ بحقِّ الله ورسوله وبصالحِي المؤمنين، وفيه ضَربٌ من العناد لهم".
أيّها المسلمون، إنَّ السّكوتَ عن الآثِم المجاهر والمنكرِ الظاهر عيبٌ في أهل الإسلام ودليل نقصِ وَلائهم لدين الله وجِهادِهم لإعلاء كلمتِه وشرعه وجهادِهم لإعلاءِ سنّة نبيِّه محمَّد ، وهو عَلامةٌ على ضعفِ إيمانهم وقِلّة توكُّلهم على من بيَده كلُّ حركةٍ وسكون ومَنْ أمرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن يكون، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، فجعل الأمرَ بالمعروف والنّهيَ عن المنكر مِن أوَّلِ صفاتهم وأعظمِ سمَاتهم.
وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلِسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) أخرجه مسلم، وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: ((ما من نبيٍّ بعثَه الله في أمّةٍ قبلي إلاّ كان له مِن أمَّته حواريّون وأصحابٌ، يأخذون بسنَّته، ويقتَدون بأمره، ثم إنها تخلُف من بعدِهم خلوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعَلون ما لا يؤمَرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمِن، وليس وراءَ ذلك من الإيمان حبّةُ خردل)) أخرجه مسلم.
أيّها المسلمون، الساكتُ عن المنكر حالَ الإظهار وعدم الاستتار مع إمكانِ الإنكار شريكٌ لا يسلَمُ من التبِعة، ولا ينجو من الإثم والحرج، يقول جلّ في علاه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ [الأنفال:25]. فِتنةٌ تتعدَّى المذنِبَ المباشر والظالم المجاهِرَ لتصيبَ الصالح والطّالح، بسَبَب عُصبة فاسقةٍ لم تُقمَع ومنكراتٍ ظاهرة لم تُدفَع وتجاوزاتٍ للشَّرع لم تُمنَع. فإن قيل: فما ذنبُ من لم يظلِم؟ قيل: بموافَقَتِه الأشرار أو بسكوته عن الإنكار استحقَّ عقوبة الجبّار.
وإذا تظاهر الناسُ بالمنكر وأتَوه جِهارًا وجَب إنكارُه على من رَآه، فإذا سكَتوا جميعًا فالكلُّ عُصاة: هذا بفعلِه وهذا برضاه، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما مِن رجلٍ يكون في قومٍ يعْملُ فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيِّروا عليه فلا يغيّروا إلاَّ أصابهم الله بعذابٍ من قبل أن يموتوا)) أخرجه أبو داود، وعن أبي بكرٍ الصدّيق رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((إنَّ الناسَ إذا رأوا الظالمَ فلم يأخذوا على يدَيه أوشك أن يعمَّهم الله منه بعقاب)) أخرجه أبو داود وغيره. غايةٌ في التشدِيد ونهايةٌ في التهديد بأوفى وعيدٍ، نسأل الله أن يتدارَكَنا بعفوه ولطفِه ورحمتِه، وأن يهديَ ضالَّنا ويصلحَ شبابنا وفتياتنا.
يقول الإمام القرطبيّ رحمه الله تعالى: "قيل: كلُّ بلدةٍ يكون فيها أربعة فأهلُها معصومون من البلاء: إمامٌ عادِل لا يظلِم، وعالمٌ على سبيلِ الهدى، ومَشايخ يأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر ويحرّضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستوراتٌ لا يتبرَّجن تبرُّج الجاهلية الأولى".
أيّها المسلمون، لا ينجو من البلاء إلاَّ الناهون المصلِحون، وخسِر هنالك الخُرس المداهنون والعصاةُ المجاهرون الراسخون في الإجرام القاطِعون لأمر الله على الدَّوام، قال جلَّ في علاه: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165]، وفي هذه الآيةِ أعظَمُ زاجرٍ عن التشبُّه بحالهم الموقِعِ في مَثيل نَكالهم. ويقول جلّ في علاه: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116، 117]، قليلٌ نجَوا مِن العذاب؛ لأنهم نهَوا عن الفَساد.
أيّها المعلنُ المكاشِف، حلّت بك الخيبَةُ والخسار يومَ رُفِعَت عنك العافية وتردَّيتَ في الهاوية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((كلُّ أمّتي معافى إلاّ المجاهرين، وإنَّ من المجاهرةِ أن يعملَ الرجلُ بالليل عملاً، ثم يصبح وقد سترَه الله، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد باتَ يستره ربُّه، ويُصبح يكشِف سترَ الله عنه)) أخرجه البخاري.
أيّها المسلمون، أنكِروا على من كاشَف بمواقعةِ الحدود، وعِظوا من جاهر بملابسةِ الذنوب، ولا توانَوا ولا تواكَلوا ولا تواهَنوا ولا تكاسَلوا، استفرِغوا الوسعَ وابذلوا الجهود قبل أن يستشرِي المُرود ويستَعليَ الصدود ويكثُرَ الشُّرود، فعن العُرْسِ بن عميرة الكنديّ رضي الله عنه عن النبيِّ قال: ((إذا عُمِلت الخطيئة في الأرضِ كان من شهِدها فكَرِهَها ـ وقال مرّة: فأنكَرَها ـ كان كمَن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضِيَها كان كمن شهِدها)) أخرجه أبو داود، يقول الحافظ ابنُ رجب رحمه الله تعالى: "فمن شهِد الخطيئةَ فكرِهها بقلبه كان كمن لم يشهدها إذا عَجز عن إنكارها بلسانِه ويدِه، ومن غاب عنها فرضيَها كان كمن شهِدَها وقدِر على إنكارِها ولم ينكِرها؛ لأنَّ الرِّضا بالخطايا من أقبح المحرمات".
أيّها المسلمون، ويلٌ لمن جالس أهلَ المعاصي والمنكرات، أو فرِح بظهورِهم، أو رضيَ بباطلهم، أو أشادَ بأفعالهم، أو ساعَدَهم وساندهم، أو أعلَن فجورَهم، أو كثّر سوادَهم، ومن كثَّر سوادَ قومٍ فهو منهم، ومَن رضِيَ عمَلَ قومٍ كان شريكَ مَن عملَ به، والرِّضا بالمعصية وِزر، والرِّضا بالكفر كفر، قال جل في علاه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140].
فويلٌ لمن عَرّض نفسَه لمَقتِ الله وغضَبِه وعذابه وسخَطِه، ويلٌ له يوم يلقَى شؤمَ فعله وعاقبةَ أمرِه ومَكرِه، وكان عاقبةُ أمرِه خسرًا.
وَقاني الله وإياكم سبيلَ الخاسِرين، وجعلنا جميعًا من الهداةِ المهتَدين المتَّبعين لسنّة سيّد المرسلين محمّد ، أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئةٍ، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرحيم.
|