يقول الله في محكم كتابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:60، 61].
أيها المسلمون، هاتان الآيتان الكريمتان من سورة النساء، وسبب نزولهما كما ورد في كتب التفسير والسيرة النبوية بأن أحد المنافقين في المدينة المنورة قد وقع في مشكلة، ورفض هذا المنافق الاحتكام إلى رسول الله محمد ، وفضّل أن يحتكم إلى كاهن من قبيلة جُهَينة.
وتشير هاتان الآيتان الكريمتان إلى أن من مقتضيات الإيمان الاحتكام إلى الإسلام في جميع المسائل التي تواجه المسلم في حياته العملية واليومية، ولا يجوز شرعًا الاحتكام إلى الطاغوت والشيطان، كما لا يجوز شرعًا الاحتكام إلى القوانين الوضعية والعادات الجاهلية. ومعنى هذا أن الاحتكام إلى غير الإسلام ينفي عن المسلم صفة الإيمان إذا كان معتقدًا أن القوانين الوضعية والعادات الجاهلية أولى وأفضل من الأحكام الإسلامية. وهذا ما نشاهده في أيامنا هذه، حيث إن الزوجة إذا توفّي زوجها لا ترضى بحكم الشريعة الذي يعطيها ثُمُن تَرِكة زوجها إن كان لديه أولاد، ويعطيها ربع التركة إن لم يكن لها أولاد، وإنما تلجأ إلى المحاكم الإسرائيلية التي تعطيها نصف تركة زوجها، ضاربة بعرض الحائط التقسيم الشرعي الإلهي للتركة، لاحقة وراء متاع الدنيا الفانية.
أيها المسلمون، إن هاتين الآيتين الكريمتين تكشفان نفسية المنافقين الذين يزعمون بأنهم يؤمنون بالله ورسوله، وفي الوقت نفسه يصدّون عن الاحتكام إلى الإسلام، أي: إنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والإلحاد ويطالبون بتعطيل الأحكام الشرعية القطعية والعياذ بالله.
وهذا الصنف من الناس موجودون في المجتمعات الإسلامية في هذه الأيام على مستوى الحكام والمسؤولين، وعلى مستوى الجماعات والأحزاب. إنهم يزعمون بأنهم مسلمون، وفي الوقت نفسه يحتكمون إلى القوانين الوضعية وإلى النظام الرأسمالي، ويسيرون حسب أهوائهم وشهواتهم وانحرافاتهم الجنسية والفكرية، ويجعلون القرآن الكريم والسنة النبوية وراءهم ظِهْرِيًّا، والله سبحانه وتعالى يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
أيها المسلمون، علينا أن نحذر من هؤلاء المستهترين بالإسلام، ويصفون أنفسهم بأنهم مثقفون وأنهم متقدّمون، وهم في حقيقتهم منحرفون في عقيدتهم وأفكارهم وسلوكهم، وأنهم يعارضون أن يكون القرآن الكريم دستورًا لهم، ويطلقون على ديننا الإسلامي العظيم بأنه رَجْعِي وأنه غير صالح لهذه الأيام. وإن هؤلاء المنحرفين لا يتجرّؤون أن يتعرضوا لأي دين آخر، وإنما همّهم أن يوجّهوا الافتراءات والشبهات الباطلة ضد الإسلام فحسب، مع أنهم من جلدتنا، ويتكلمون بلساننا، كما خبّرنا بذلك رسولنا الأكرم محمد . إنهم يتجرؤون على هذا الدين العظيم في غياب دولة الإسلام وسلطانه، وبسبب الخلافات والمشاحنات بين الحركات والجماعات والأحزاب الإسلامية، حيث لم تشكّل هذه الجماعات والحركات قوة مؤثّرة نتيجة تبعثر جهودها وانشغالها ببعضها البعض.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إنه لمن أوجب الواجبات على الحركات والجماعات والأحزاب والمؤسسات الإسلامية أن توحّد جهودها لتتصدّى للأفكار الدخيلة الهدّامة، ولكن ما الذي نلاحظه على الساحة الإسلامية في هذه الأيام في فلسطين وفي سائر الأقطار العربية والإسلامية؟ إننا نلاحظ جهودًا مُبدّدة ومبعثرة هنا وهناك غير مبرمجة ولا منسّقة، مما يؤدّي إلى ضعف في تأثير الفكر الإسلامي في المجتمع. وإن كل حركة توهم نفسها بأنها هي المنصورة وأنها وحدها الحق وأن غيرها خلاف ذلك بالإضافة إلى كيل التهم جزافًا بين دعاة الإسلام والتشكيك فيما بينهم وإلى إثارة قضايا فرعية جزئية ينبغي التجاوز عنها.
اسمعوا ـ أيها المسلمون ـ قول الله سبحانه وتعالى مخاطبًا موسى وهارون عليهما السلام في سورة طه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43، 44]. فالقول الليّن مع فرعون، كيف القول مع المسلمين؟! ويقول تعالى في سورة سبأ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]. إنه لأدب الخطاب في النقاش وعدم الادّعاء والتعصّب والانفعال.
أيها المسلمون، يتوهّم البعض أنه إذا طَعَن في حزب آخر أو حركة أخرى بأنه يحقق إنجازًا إيجابيًّا إلى الأمام، وفي الحقيقة إنه يرجع القَهْقَرَى من حيث يدري أو لا يدري هذا المسكين؛ لأن إضعاف أي مسلم هو إضعاف لنفسه؛ لأن المسلم أخو المسلم، ولأن المسلم مرآة أخيه المسلم، فيقول رسولنا الأكرم محمد : ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))، ويقول في حديث آخر: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا)).
في حين نشاهد الحركات والأحزاب الوطنية والقومية والعلمانية واليسارية تنسّق فيما بينها، وتحقق إنجازات على أرض الواقع، وتأخذ الوضع القيادي لها.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن ديننا الإسلامي العظيم يمتاز بأنه دين شامل ولجميع مناحي الحياة، ويتعذّر على أي حركة أو حزب أو جماعة أو مؤسسة أن تحيط بهذا الدين كله من جميع جوانبه وأطرافه، وهذا أمر متوقّع وليس غريبًا ولا شاذًّا، لذا نقول وبالله التوفيق: إن الأصوات الحريصة على الإسلام قد أخذت ترتفع رويدًا رويدًا في هذه الأيام، تطالب بعمل إسلامي موحّد، وأن كل حركة تكمل الأخرى، وعلى قادة هذه الحركات والأحزاب أن يتفهّموا هذه الحقيقة، وسبق لي أن ناديت بهذا الاقتراح قبل سنتين من على منبر المسجد الأقصى المبارك وقلت: لا يجوز لقادة ورؤساء الحركات والجماعات والأحزاب أن يضعوا أنفسهم في أبراج عاجِيّة. وإن الحقيقة تقول: إن كل حركة منفردة لا تستطيع أن تؤثر وأن تغير في المجتمع، ولا تستطيع أن تقف منفردة أمام التحديات الكبيرة التي تخطط لها الدول الكبرى الصليبية. فإذا لم يحصل التعاون الحقيقي الصادق فإن جهود الدعاة تبقى ضعيفة وغير مؤثرة في المجتمع.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، نحن أمام تحديات كثيرة وكبيرة، وهي في حقيقتها أكبر من حجمنا وطاقاتنا ما دمنا في هذا الوضع الممزّق، وكما يقول المثل السائر: "كلٌّ يُغَنّي على ليلاه". ولن نستطيع الوقوف أمام الأفكار الدخيلة إلا بوحدة دعاة الإسلام على اختلاف اجتهاداتهم، وهذا لا يضير، فلا مجال للمكابرة، ولا مجال للغرور، ولا مجال للتعنّت والتشنّج. فهناك أمور كثيرة فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، ليتمكن المسلمون جميعًا من استئناف حياة إسلامية رائدة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إنه من واجبنا أن ندعو للوحدة والتضامن والتنسيق والتفاهم في المواقف، ونحن مع كل من يقول: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، هذا ما أمرنا به ربّ العزّة، وأمرنا به أيضًا ـ دعاةَ الإسلام ـ رسولنا محمد .
جاء في الحديث القدسي الشريف عن أم المؤمنين زينب رضي الله عنها من حديث مطوّل قالت بأن النبي دخل عليها وهو يقول: ((ويل للعرب من شر قد اقترب))، فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخَبَث)).
|