أما بعد: أيها المسلمون، إن المحافظة على حرمة الإسلام وصون المجتمع المسلم من أن تخلخله وتقوّضه البدع والخرافات والمعاصي والمخالفات وحمايته من أمواج الشر الهائجة وآثار الفتن المائجة وتحذيره مزالق الشقوق ودركات الهبوط أصل عظيم من أصول الشريعة وركن مشيد من أركانها المنيعة، يتمثل في ولاية الحسبة وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك المهمة العظمى والأمانة الكبرى التي هي حفاظ المجتمعات وسياج الآداب والكمالات، بها صلاح أمرها واستتباب أمنها وقوة ملاكها وتمساكها، ما فُقدت في قوم إلا زاغت عقائدهم وفسدت أوضاعهم وتغيرت طباعهم، وما ضعُفت في مجتمع إلا بدت فيه مظاهر الانحلال وفشت فيه بوادر الاختلال، والأمة حين تكون سائرة في جادة الطريق محكمة شريعة الله بالتحقيق والتطبيق يكون من أول مهامها إقامة ولاية الحسبة ورفع لوائها وإعلاء بنائها وإعزاز أهلها؛ لأن جميع الولايات تعود إليها، يقول تبارك وتعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، ويقول تبارك وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
أمةٌ قائدة رائدة تحقق في المجتمع المسلم شرع الله، وتصدع بالحق في وجوه النفوس المريضة الباغية إشباع شهواتها العابثة بأمن الأمة ومقدراتها، يقول جل وعلا في وصف الأمة المحمدية وذكر أسباب الخيرية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
أيها المسلمون، إن المعاصي والمنكرات هي الداء العضال والوباء القتّال الذي به خراب المجتمعات وهلاكها، وإن التفريط في تغيير المنكرات ومكافحتها والقضاء عليها من أعظم أسباب حلول العقاب ونزول العذاب، فعن أم المؤمنين أم الحسن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي دخل عليها فزعًا وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ويأجوج مثل هذه)) وحلّق بأصبعه الإبهام والتي تليها، فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال : ((نعم إذا كثر الخبث)) متفق عليه. والخبث هو: الفسوق والفجور. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة)) رواه أحمد. ويقول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)) رواه أبو داوود وغيره. وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى بعض عماله: "أما بعد: فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح بينهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات ما قُمع أهل الباطل واستخفي فيهم بالمحارم".
أيها المسلمون، إن المداهنة في الدين وعدم التناهي بين المسلمين من أعظم أسباب اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة أرحم الراحمين، يقول النبي : ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض))، ثم قرأ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]، ثم قال : ((والله، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنّه على الحق أطرًا ولتقصرنّه على الحق قصرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم)) رواه أبو داوود والترمذي. لُعنوا في كتاب الله لعنًا يتلى على مر الأيام والسنين وإلى أن يقوم الناس لرب العالمين، فاحذروا ـ عباد الله ـ سبيلهم الوخيم وفعلهم الذميم، فإنه لا صلة بين العباد ورب العباد إلا صلة العبادة والطاعة، فمن استقام على شريعة الله استحق من الله الكرامة والرضوان، ومن حاد عن سبيل الحق والهدى باء باللعن والخيبة والخسران.
يا من رضيتم بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً، أصيخوا سمعكم وأصغوا قلوبكم لقول النبي محمد : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم. وانظروا وتساءلوا: أين أثر تطبيق هذا الحديث في نفوسنا ومجتمعاتنا؟! أين إيماننا الصادق وخضوعنا التام لما جاء به محمد ؟! ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده))، السلطان في سلطانه، والأمير في إمارته، والقائد في جيشه، والرجل في أهل بيته، وكل مسؤول فيما تحت ولايته، يقول عثمان : (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، ويقول بعض السلف: "ما قيمة حق لا نفاذ له؟!".
أيها الآباء والأمهات، طهروا بيوتكم من جميع المنكرات، وليكن بيت النبوة ـ على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام ـ لكم في ذلك قدوة وأسوة، تنتهجون نهجه وتحذون حذوه، تقول عائشة رضي الله عنها: قدم رسول الله من سفر وقد سترت سهوة من جدران فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله هتكه وتلوّن وجهه وقال: ((يا عائشة، أشد عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله تعالى)) متفق عليه، تقول عائشة رضي الله عنها: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين. رحماك ثم رحماك يا رب.
عباد الله، من عجز منكم عن الإنكار باليد والسلطان فلينكر باللسان والبيان، فعن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم. متفق عليه. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي قال في خطبته: ((ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه)) رواه الترمذي وأحمد وزاد ((فإنه لا يُقرّب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقال بحق أو يذكّر بعظيم))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحقر أحدكم نفسه))، قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: ((يرى أمرًا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول فيّ كذا وكذا، فيقول: خشية الناس، فيقول الله جل وعلا: فإياي كنت أحق أن تخشى)) رواه ابن ماجه.
أيها المسلمون، إن الطامة الكبرى والمصيبة العظمى أن تتوالى الفتن على القلوب ويزيل خطر المعاصي في النفوس، فيواقع الناس حدود الله وينتهكون أوامر الله، ويصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، يقول رسول الهدى : ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه)) رواه مسلم. وسُئل حذيفة بن اليمان : من ميت الأحياء؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: (الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه)، وفي صحيح مسلم أن النبي قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)).
أيها المسلمون، لم يفتأ أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين ومن سار في ركابهم من فسّاق الملة المستغربين يشنون على أمة الإسلام حملات متلاحقة عبر وسائل ورسائل لا يخفى مستواها، ولا يُجهل فحواها ومحتواها، غرضها زعزعة عقيدة الأمة وتدمير أخلاقها وطمس هويتها وتغييبها عن رسالتها. فبماذا واجه المسلمون تلك الحملات؟! هل أوصدوا دونها الأبواب؟! هل جاهدوها حق الجهاد؟! هل قاموا بالضمانات الكافية من عدم انتشار الشر والفساد؟! لقد فتح كثير من المسلمين بسبب الغفلة عن دين الله وقلة التحفظ والتيقظ، فتحوا بلادهم ومتاجرهم وبيوتهم وقلوبهم لتلك التيارات الوافدة، وأسلموا مجتمعاتهم للأمة الكافرة المعاندة، وصدق رسول الله : ((لتتبعن سَنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه))، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ فقال : ((فمن؟!)) رواه البخاري. يقول بعض أهل العلم: "إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة".
أيها المسلمون، إنكم أغلى وأعلى وأعز وأكرم من أن تهبطوا من سماء عليائكم إلى التشبه بأمم كافرة فاجرة تعيسة بئيسة حائرة شاردة تلهث وراء شهوتها وتستهيج في سبيل متعتها، فلقد شرفكم الله جل وعلا بأعظم دين، وأكرمكم بأفضل رسول محمد ، وأنزل عليكم خير كتاب، فاشكروا الله على ما حباكم وأعطاكم، وجابهوا جهود أعدائكم بجهود أقوى وأمضى قبل أن تشتد شوكتهم وتحتد شَكّتُهم، جهود تحفظ أمانة الدين الذي ائتمنكم الله عليه، صونوه طاقتكم واحفظوه جهدكم، وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35].
عباد الله، إن مما يبعث على الحرقة والأسى أن يرى المسلم في مجتمعه وأمام عينيه صورًا ممرضة وأحوالاً مرضية من المنكرات والمحرمات فلا يجد لذلك في نفسه توجعًا، فأي ركن قد وهى؟! وأي نور للأمة قد ذهب واختفى؟! نعوذ بالله من اندراس معالم هذه الشعيرة واستيلاء المداهنة على القلوب وذهاب الغيرة الدينية.
فيا أمة محمد ، يا خير أمة أخرجت للناس، أين الحمية التي تتأجج في صدوركم لدين الله؟! أين الغضب؟! أين تمعّر الوجوه من انتهاك حدود الله؟! تقول عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل. رواه مسلم.
أيها المسلمون، تعاقدوا وتعاهدوا أن تنصروا شريعة الرحمن، وقوموا قومة تُعلي راية الإيمان، وخذوا على أيدي سفهائكم قبل استفحال الداء وإعواز الدواء، واعلموا أن التواكل والتلاوم والتحسر والتضجر دون عمل وجد واجتهاد وأمر ونهي ودعوة وإرشاد لا يغير من الواقع شيئًا، بل هو داعية غم وهمّ وفتور وإحباط. إننا لا نريد غيرةً لا تعدو أن تكون مجرد معان نتمناها بأذهاننا أو نحسها مجردة في مشاعرنا، إننا نريدها باعثًا قويًا وواقعًا عمليًا وعملاً إيجابيًا لخدمة دين الله والانتصار لشرع الله وفق القيود الشرعية والضوابط المرعية.
أيها المسلمون، إن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة جسيمة ذات أعباء لا يقدر عليها إلا الكُمّل من الرجال، هي مهمة الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، مهمة تصطدم بشهوات الناس ونزواتِهم وغرورِهم وكبريائِهم وهبوط السفلة منهم، ولا بد أن ينال القائمين بها شيء من الاعتداء والأذى، فصبرًا صبرًا يا أهل الحسبة، فقد أوذي إمامكم وقائدكم خاتم الأنبياء وإمام الحنفاء محمد فصبر وصابر حتى نصره الله، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [الأنعام:34]، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
أيها المسلمون، إن إيذاء المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أو الاعتداء عليهم أو الطعن فيهم أو تضخيم أخطائهم أو بث الإشاعات الكاذبة عنهم جرم عظيم وذنب كبير، تصيب المرء مغبته ومعرّته ولو بعد حين، يقول جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ((إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) رواه البخاري.
فاحذروا من الانخداع بمقالات الجاهلين أو الانسياق وراء أكاذيب الحاقدين وما يدور على ألسنة المغرضين المنافقين، يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:69-71].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة... |