الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، يختلف المؤرخون في التاريخ الذي برز فيه الشيعة كحركة مستقلة، فمنهم من قال: إنها برزت بموت النبي ، وذلك بعد انقسام المهاجرين والأنصار حول تحديد الخلافة، بينما كانت طائفة أخرى تفضل عليا، وقيل: إن تكوين الشيعة لم يكن إلا يوم واقعة الجمل، ومنهم من قال: اشتهر اسم الشيعة يوم صِفِّين وهو أرجح الأقوال، وقيل: إن الاصطلاح الدال على التشيع إنما كان بعد مقتل الحسين، حيث إنّ التشيع أصبح كيانًا مميزًا له طابع خاص.
ويكاد يجمع المؤرخون أنّ أول من أحدث فكرة التشيع وما تحمله من معتقدات عبد الله بن سبأ اليهودي من أهل صنعاء، وقد كان عبد الله بن سبأ يحمل في قلبه غلاّ على الإسلام الذي أزال ما كان اليهود يتمتّعون به من الهيمنة والسلطان على عرب المدينة والحجاز عامة، فادعى الإسلام في أيام عثمان، ثم تنقل في بلاد الحجاز، ثم ذهب إلى البصرة، ثم إلى الكوفة، ثم إلى الشام، وهو يحاول في كل بلد ينزل بها أن يضل ضعاف الأحلام، ولكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلا، فأتى مصر فأقام بين أهلها، وما فتئ يلفتهم عن أصول دينهم ويزيد لهم بما يزخرفه من القول حتى وجد مرتعًا خصبًا، وكان مما قاله لهم: إني لأعجب كيف تصدقون أن عيسى ابن مريم يرجع إلى هذه الدنيا وتكذّبون أن محمدًا يرجع إليها؟! وما زال بهم حتى انقادوا إلى القول بالرجعة، فكان هو أول من وضع لأهل هذه الملة القول بالرجعة، ثم قال لهم: إنه قد كان لكل نبي وصي، وإن علي بن أبي طالب هو وصي محمد، وليس في الناس من هو أظلم ممن احتجر وصيّة رسول الله ولم يجزها، بل تعدى ذلك فسلب الوصي حقّه، وإن عثمان قد أخذ حقّ علي وظلمه، فانهضوا في هذا الأمر، وليكن سبيلكم إلى إعادة الحق لأهله الطعن على أمرائكم وإظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنكم تستميلون بذلك قلوب الناس، واتخذ لهذه الدعوة وأنصارا بثهم في الأمصار، وما زال يكاتبهم ويكاتبونه حتى نفذ قضاء الله، وكان الضحية الأولى لهذه المؤامرة ذلك الخليفة الراشد الذي قتل مظلومًا وبين يديه كتاب الله، واعتدي على منزله وحرمته، وكان قضاء الله قدرًا مقدورا، ثم بويع علي بن أبي طالب فاختلف الناس في أمره، فمن بين منكر لإمامته، ومن بين قاعد عنه، وبين قائل بإمامته معتقد لخلافته.
أيها الإخوة الأفاضل، مرّ التشيع عبر التاريخ بمراحل عديدة، من أهمها:
المرحلة الأولى:كان التشيع عبارة عن حب علي وأهل البيت بدون انتقاص أحد من إخوانه صحابة رسول الله .
المرحلة الثانية: ثم تطوّر التشيع إلى الرفض، وهو الغلو في علي وطائفة من آل بيته، فالإسماعيلية تغلو في سبعة من أهل البيت، والاثنا عشرية في اثني عشر من أهل البيت، وتطعن في أهل البيت الآخرين كما تطعن في الصحابة.
المرحلة الثالثة: تأليه علي بن أبي طالب والأئمة من بعده والقول بالتناسخ وغير ذلك من عقائد الكفر والإلحاد المتسترة بالتشيع، والتي انتهت بعقائد الباطنية الفاسدة والطعن في الصحابة وتكفيرهم، مع عقائد أخرى ليست من الإسلام في شيء كالتقية والإمامة والعصمة والرجعة والباطنية.
أيها الإخوة الكرام، وفِرق الشيعة كثيرة جدا، منها ما اندرس وانمحى، ومنها ما هو باق إلى يومنا هذا، ومن أهم الفرق الكبرى المعاصرة الاثنا عشرية، وهي كبرى الفرق الشيعية اليوم، والزيدية وهم أتباع زيد بن علي بن الحسين، ويعتبرون من أقرب الفرق الشيعية لأهل السنة، ما عدا فرقة منهم تسمّى الجارودية، فهي فرقة من الروافض وإن تسمّت بالزيدية، وموطن الزيدية في اليمن، والإسماعيلية ومنها النصيرية والدروز وغيرها.
أيها الإخوة الكرام، أول مفهوم يجب أن يصحح في الأذهان هو ما كان من حرب بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فيجب علينا أن لا نخوض في تفاصيل هذه القضية التي لا طائل من ورائها، كما يجب علينا أن نسلم بأن الصحابة كلَّهم دون استثناء عدول كمَّل، وما جرى من حربهم مؤوّل، وكلهم مجتهدون، والمجتهد له أجران إن أصاب، وله أجر إن أخطأ، كما يجب علينا أن نعلم أن الخلاف الذي كان بينهم لم يكن خلافا دينيا ولا نزاعا قبليّا ولا عصبية الحسب والنسب، والحصيلة أن التشيع الأول لم يكن مدلوله العقائد المخصوصة والأفكار المدسوسة،كما لم تكن الشيعة الأولى إلا حزبًا سياسيًا يرى رأي عليّ دون معاوية في عصر علي، وأما بعد استشهاده وتنازل الحسن عن الخلافة فكانوا مطاوعين لمعاوية أيضًا مبايعين له، كما حصل مع إمامهم الحسن وأخيه الحسين، وكانوا يفدون على الحكام ويصلّون خلفهم كما كان الحسن والحسين يفدان على معاوية، فلما استقرت الخلافة لمعاوية كان الحسين يتردّد إليه مع أخيه الحسن فيكرمهما معاوية إكرامًا زائدًا، ويعطيهما عطاء جزيلا، وقد أطلق لهما في يوم واحد مائتي ألف، وقال: خذاها وأنا ابن هند، والله لا يُعطيكما هذا أحد قبلي ولا بعدي، فقال الحسين: والله لن تعطي أنت ولا أحد قبلك ولا بعدك رجلا أفضل منا، ولما توفي الحسن كان الحسين يفد إلى معاوية في كل عام فيعطيه ويكرمه، حتى بعض غلاة الشيعة يقرّون بأنّ العلاقة التي كانت بين الحسن والحسين ومعاوية كانت علاقة طيبة، ذكر المجلسي وهو أحد علماء الشيعة عن جعفر بن الباقر أنه قال: قال الإمام الحسن يومًا للإمام الحسين وعبد الله بن جعفر: إنَّ هدايا معاوية ستصل في أول يوم من الشهر القادم، ولم يأت هذا اليوم إلا وقد وصلت الأموال من معاوية، ومعاوية أول رجل في الأرض وهب ألف ألف، وابنه يزيد أول من ضاعفه، كان يجيز الحسن والحسين بن علي في كل عام لكل واحد منهما بألف ألف درهم، وكان يبعث إلى الحسين في كل سنة ألف ألف دينار سوى الهدايا من كل صنف.
فالحقيقة أن ما كان من خلاف بين الصحابة لم يكن خلافا عقديا، ولا يترتب عليه تكفير أحد ولا سبه، ولله ذر من قال:
لا تركنّن إلَى الروافض إنَّهم شتموا الصحابة دونما برهان
لعنوا كما بغضوا صحابة أحمد وودادهم فرض على الإنسان
حب الصحابة والقرابة سنة ألقَى بِهـا ربي إذا أحيانِـي
احذر عقاب الله وارج ثوابه حتَّى تكـون كمن له قلبان
|