معاشر المسلمين، الأمانةُ خلُقٌ مِن أخلاق الأنبياءِ والمرسَلين، وفضيلةٌ من فضائل المؤمنين، عظَّم الله أمرَها ورفع شأنها وأعلى قدرَها، يقول جلّ وعلا: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]، ويقول سبحانه في وَصفِ عبادِه المفلحين المؤمِنين: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المعارج:32].
الأمانةُ أمر الله بحفظِها ورِعايَتِها، وفرَض أداءَها والقِيامَ بحقِّها: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283]، ويقول جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، ونبيُّنا يقول: ((أدِّ الأمانةَ إلى من ائتَمَنك، ولا تخُن من خانك)) رواه أبو داودَ والترمذيّ وسنده صحيح. وفي قصّة هرقل مع أبي سفيان رضي الله عنه قال هِرَقل: سألتُك عن ماذا يأمركم ـ أي: النبي ـ فزعمتَ أنه يأمُر بالصلاة والصِّدق والعفاف والوفاءِ بالعهد وأداء الأمانة، وهذه صِفَة نبيّ. متّفق عليه.
معاشرَ المسلِمين، تضييعُ الأمانة ذنبٌ عظيم وجُرم جسيم، يَقول ربُّنا جل وعلا ناهيًا عن الخيانة في الأمانةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ [الأنفال:27]، ورسولنا يبيِّن لنا أنَّ الخيانةَ في الأمانة علامة من علاماتِ المنافق، فيقول عليه أفضل الصلاة والسلام: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعَد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان)) متّفق عليه.
إخوة الإسلام، والأمانة المطلوبة تشمَل عِفّةَ الأمين عمّا ليس له بحقٍّ، وتتضمَّن تأدِيَةَ الأمين ما يجِب عليه من حقٍّ لغيره سواء لله أو لخلقِه، وتشمَل كذلك اهتمامَه بحفظِ ما استُؤمِن عليه من ودائعَ وأموال وحُرَمٍ وأسرار. وقال العلماء: "والمجالات التي تدخل فيها الأمانةُ كثيرةٌ، قاعدتها وأصلُها التكاليف والحقوقُ التي أمر الله جل وعلا بِرعايتها وصِيانتها، ممّا هو متعلِّق بالدِّين أو النّفوس أو العقول أو الأموال أو الأعراض".
إخوةَ الإيمان، ومِن الأمانة الواجِب مراعاتُها والقِيام بحقِّها إسداءُ النصيحةِ لمن استَنصَح وإبداءُ الرأيِ السديد المتجرِّدِ من كلِّ غَرَض لمن استشار، فنبيُّنا يقول: ((المستَشار مؤتَمَن)) حديث حسن، ويقول : ((ومَن استشارَه أخوه المسلمُ فأشار عليهِ بغيرِ رشدٍ فقد خانَه)) رواه أحمد وأبو داود بسند حسن.
ومن الأمانات العامّةِ التي يجب تقوَى الله عزّ وجلّ فيها الوظائفُ بشتَّى أنواعها والمسؤوليَّات بمختَلفِ صوَرِها، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ الله، ألا تستعمِلُني؟! قال: فضَرَب بيدِهِ على منكِبي ثم قال: ((يا أبا ذرّ، إنّك ضعيف، وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامة خِزيٌ وندامة، إلاّ من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها)) رواه مسلم، وروى مسلم أيضًا عن النبي أنه قال: ((ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيّةً يموت يومَ يموت وهو غاشٌّ لرعيَّته إلاّ حرَّمَ الله عليه الجنة)).
إخوةَ الإسلام، ومِن أعظمِ ما يُؤتمَن عليه الإنسانُ الأموالُ العامّة التي تعود للمسلِمين قاطِبَة، فرَضَ الله رعايَتَها وعدَمَ إهدارِها، وأوجَبَ حفظَها كما يحفظ الإنسان مالَه وأشدّ، قال في حديث طويلٍ: ((ومَن استعمَلناه منكم على عمَلٍ فكتمَنا مخيطًا فما فوقه كان غُلولاً يومَ القيامة))، وفي الحديث أيضًا: ((ومن استعملنا منكم على عملٍ فليجِئ بقليله وكثيره)) الحديث رواه مسلم. وقد مدَح الأمينَ على أموال المسلمين فقال: ((الخازن الأمين الذي يؤدِّي ما أمِر به طيِّبةً نفسُه أحَدُ المتصدِّقين)) متّفق عليه.
أيّها المسلمون، ومِنَ الأمانات العظيمةِ أن لاَ يوسَدَ أمرٌ من أمور المسلمين إلاّ فيمن يُتَوخَّى فيه خوفُ الله جل وعلا وممّن توفَّرت فيهم شروطُ الصلاحيّة العلميّة والعملية والأمانةُ على تأديَة الواجب الملقَى، فربُّنا جلّ وعلا يقول حكايةً عن عفريتِ الجن: قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39]، وقال حكايةً عن بنت شعيبٍ عليه السلام: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، ويقول عن يوسف عليه السلام: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، وفي حديث حذيفةَ أنَّ النبيَّ قال لأهلِ نجران: ((لأبعثَنّ إليكم رَجلاً أمينًا حقَّ أمين))، فاستشرَفَ لها أصحابُ رسول الله ، فبَعث أبا عبيدةَ. متّفق عليه.
وإنَّ من علامات سوء الزمان وفسادِ المجتمع وخُبث السّرائر ضياعَ الأمانة والتّفريطَ في الرِّعاية والتّهاوُن في المسؤولية واتِّخاذَ المصالح الخاصّة الهدفَ والغاية ونبذَ المصالح العامّةِ من أجل المصالحِ الخاصّة والمنافع الذاتيّة، ففي مقامِ الذمّ يقول الحبي المصطفى : ((إنَّ الله يبغِض الفحشَ والتفحُّش. والذي نفسُ محمّد بيدِه، لا تقوم الساعة حتى يُخوَّنَ الأمين ويؤتَمَن الخائن، حتى يظهَر الفُحش والتفحُّش وقطيعةُ الأرحام وسوءُ الجوار)) والحديثُ رواه أحمد وغيره وإسناده صحيح، وفي صحيح البخاريّ قولُه : ((فإذا ضيِّعَت الأمانة فانتظِرِ الساعةَ))، قال: كيف إضاعتُها؟ قال: ((إذا وُسد الأمرُ إلى غير أهلِه فانتظرِ الساعة)).
فيا من تحمَّلَ مسؤوليّةً من مسؤوليات المسلمين مِن الوظائف والأعمال والمهامِّ والمسؤوليّات، لقد استرعَاكم ربُّكم جل وعلا ثمّ وليُّ الأمر مسؤوليّاتٍ جسامًا ومهامَّ عِظامًا، واجبٌ عليكم تقوَى الله جل وعلا فيها ورِعايةُ هذِه المسؤوليّات، عليكم فَرضٌ عظيم بالقِيام بهذه المسؤوليّات بما يُرضِي الله ثم يرضِي وليَّ الأمر [وعامّةَ المسلمين]، إيّاكم وتسخيرَ هذه المسؤوليات في مصالحَ خاصّةٍ أو منافع ذاتيّة، واحذَروا من التهاونِ في مقاصِدِ هذه المسؤوليّات وأهدافِها، فلقد ائتَمَنكم وليُّ الأمر ثمّ المسلمون من بعده على هذهِ المسؤوليّات لتسخِّروها في النفعِ العامّ وتحرصُوا على الدقيقِ والكبير فيما يعودُ بالمصلَحة والمنفعةِ لكلّ مسلم، ارفقُوا بالمسلمين، اقضُوا حاجاتِهم، سهِّلوا عليهم، احذَروا من إعنَاتِهم والمشقَّة عليهم، يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا، كونوا عونًا في إفشاءِ المحبّة بين أفرادِ المجتمع، كونوا مِرآةً صادقة صالحَة في تحبيب الناس للنظامِ وللبلادِ ولوليِّ الأمر، فإنَّ من أعظم الخيانة أن تكونوا عونًا للشيطانِ على النّاس؛ لإحباطِهِم وإزعاجِهم ومضرَّتهم وتنفيرِهم عن طاعةِ وليِّ الأمر وعن محبَّته، فإنَّ صاحبَ الحاجة أعمى لا يبصِر إلا حاجتَه، والناسُ متعلِّقون بأمورِ دنياهم، ولقد قال : ((لكلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامة، يُرفَع له بقدر غَدرِه، ألا ولا غادرَ أعظم غَدرًا من أميرِ عامّة)) متّفق عليه. قال العلماءُ: "لأنَّ أميرَ العامّة ـ وهو صاحبُ الوِلايةِ العامّة من حاكمٍ عامّ أو وزيرٍ ونحوِه ـ لأنّ غدرَه يتعدّى ضرره إلى خلقٍ كثير".
أمّة الإسلام، ومِن الأمانةِ العظيمةِ على كلِّ مسلم في هذه الأرض حملُ هذا الدينِ، وإبراز محاسنِه العِظام وفضائِله الجسام، وإفهامُ العالم كلِّه بالعِلم والعمَل بالسلوك والمظهر أنَّ هذا الدينَ خير ورحمةٌ عامّة للبشرية وصلاحٌ للعالَم يحمِل السعادة والسّلام والفوزَ والنجاة في الدنيا والآخرة.
ومِن الأمانة العظيمةِ شبابُ الإسلام. فيا علماءَ المسلمين ويا مفكِّريهم، يا دعاةَ الإسلام، يا رجالَ الإعلام والتربيّة، اتقوا الله جل وعلا في الشباب، وجِّهوهم لما فيه خيرُهم وخير بلدانهم وما فيه مصالِحُهم ومصالِح أمَّتهم، فقِّهوهم مقاصدَ الإسلام، وجِّهوهم لمضامين العقيدة الصحيحة ومبادئ الأخلاق المستقيمَة والأفكار السليمةِ، بصِّروهم بخطورَةِ الآراءِ المنحرِفة مثل الغلوّ والأفكارِ المتطرّفة وتبنِّي التكفير والتّبديع والتفسيق بدون حجّةٍ قرآنيّة وسنّة نبويّة وفهمٍ سديد على منهَج علماء الأمّة، كلّكم راع، وكلٌّ مسؤول عن رعيّتِه.
حذّروا الشبابَ من المعاصِي بأنواعها ومن الآثامِ بشتَّى أشكالها، وعلَى رجالِ الأعلام خَطرٌ عظيمٌ مما يقَع في قنواتٍ كثيرة من برامجَ تحمِل السُّمّ الزُّعاف والشرَّ المستطير لإفساد أخلاقِ شبابِ الإسلام وشابّاتهم، حتى وصَلَ الأمر ـ أيها المسلمون ـ إلى جمع الشّبابِ والشابّات في مكانٍ واحد لغسلِ الأدمِغة وتعليم الأغاني الماجِنَة والأخلاقِ الرَّديَّة، فليتذكَّر أولئك المالِكون لهذه القنواتِ عِظَمَ الموقف بين يدَيِ الله جل وعلا، وليتذكَّروا أن الدّنيا دارُ ممرّ والآخرة هي المستقرّ، وليتفكّروا في هذهِ الآيةِ العظيمة: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ، ونفعَنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
|