أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، صِلَة الإيمان أقوَى الصِّلات، رابطَةُ الإيمان أعظَم الروابِط، أخوَّةُ الإيمان أخوّةٌ صادقة، فصِلَة الإيمان لا انفصامَ لعُراها، صلةٌ لها جذورُها في قلب المؤمن، صلةٌ منطلِقَة من الإيمان الصادِق مِن الإيمان الحقيقيّ، الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]. أجل، إنّ أُخوَّة الإيمان أخوّةٌ دائمة في الدّنيا والآخرة، أخوَّةٌ قامت على الإيمانِ الصَّادق، فهي الأخوَّة الثابتة التي لا تنفصِم عُراها، وهم يومَ القيامة أولياءٌ بعضُهم لبعض، الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ. كلُّ صِلة قامت على غير الإيمان فإنها صِلَة وقتيّة تنقضي بانقضاء موجبها ومسبِّبها، أمّا صلة الإيمان فهي الصِّلة الثابِتَة؛ إذ هي قائمة على أساسٍ من الإيمان بالله ودينه.
أيّها المسلمون، إنَّ الله جلَّ وعلا ذكَّر عبادَه المؤمنين بهذه الصِّلةِ ممتَنًّا بذلك علَيهم، قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، وقال أيضًا جلَّ جلاله مبيِّنًا لهم أخوَّةَ الإيمان: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، وأخبرَ جلّ وعلا ما بَين المؤمنين من موالاةٍ صادِقة فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71].
أيّها المسلم، صِلَة الإيمان وأخوَّة الإيمان ورابِطَة الإسلام قامَت على أنقاضِ الجاهليّة التي بنَت صِلتَها وأخوَّتها على أخلاقِ الجاهليّة، صلَةُ النّسب أو عَلاقةُ الوطَن أو اللّغة أو الجنس، والإسلام أقام الصلةَ الحقيقيّة على الإيمان وحدَه، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62، 63].
أخِي المسلم، لأجل هذا فللمؤمِنُ على المؤمِن حقوق، للمؤمن على أخيه المؤمن حقوقٌ أوجبها عليه الإيمان الصادقُ:
فمِن أعظم الحقوق محبّتُك لأخيك المؤمن في الله ولأجلِ الله، وتلك المحبّةُ الباقية؛ لم تقم على مادّيات، لم تَقم على مصالحَ شخصيّة وأغراضٍ دنيويّة، وإنما هي محبّة لمؤمنٍ آمن بالله ورسولِه والتزَم شرعَ الله، فأحببتَه على هذا المنهَجِ خاصّة، وتلك المحبّة الإيمانيّة الدالّة على صِدق الإيمانِ، يقول : ((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحِبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا للهِ، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفر بعدَ إذ أنقذه الله منه كما يكرَه أن يُقذَف في النار))، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (من أحبَّ في الله وأبغَض في الله ووالى في الله وعادَى في الله فإنما تُنال ولايةُ الله بذلك، ولن يجِدَ أحد طعمَ الإيمان وإن كثُرت صلاتُه وصومه حتَّى يكون كذلك)، قال: (ولقد صارَت عامّةُ مؤاخاةِ الناس اليومَ على أمر الدنيا، وذلك لا يجدِي على أهلِه شيئًا). فأخبر رضي الله عنه أنّ عامّةَ أخوّة الناس قامت على الدنيا المحضَة، وهذا لا يجدي ولا يحقِّق خيرًا؛ لأنَّ من أحبَّك لأمرٍ ما فسيبغِضك عند انقطاع ذلك الأمر، أمّا من أحبَّك لله وفي اللهِ فتلك محبّةٌ باقية بتوفيقٍ من الله.
أيّها المسلم، ومن حقِّ المؤمن على المؤمِن نصيحتُه له عندما يشعر منه بخطَأ وعندما يرَى منه مخالفةً في الأقوال والأعمال، فمِن كمال محبّتِه لهذا المؤمن أن ينصَحَه نصيحةً صادقةً من قلبٍ مليءٍ بالرحمة والشفَقَة والحنانِ على هذا المسلم، والسَّعي في الحيلولة بينه وبين الوقوع في عذابِ الله، فالمؤمِن مِرآةُ أخيه المؤمن، لا يرضى له بالزَّلل، ولا يقِرّه على خطأ، ولا يفرَح بنقصه، بل يهتمّ بأخيه المؤمن، يبدي له النصيحةَ في ذات الله، نصيحةً فيما بينه وبينه، يصلِح بها أخطاءَه، ويقيم بها ما اعوجَّ مِن سلوكه، ويوجِّهه للطريق المستقيم، كلَّما رأى في أخيه عيبًا بادَر بالنّصيحة، بادر بالتوجيهِ، بادر بالتّرغيب والترهيب، بادر بالسّعي في إنقاذِه من عذاب الله، لا يرضَى بأخطائه، ولا يقرّه على مخالفاته، مهما كانت تلك المخالفات، فهو يحبّ له ما يحبّ لنفسِه، فكما لا يرضَى لنفسه بالمخالفة الشرعية فهو لا يرضَاها لأخيه المؤمن، وفي الحديث: ((الدِّين النصيحة))، قالوا: لمن: قال: ((لله ولكتابِه ولرسولِه ولأئمّة المسلمين وعامّتِهم))، وقال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: بايعتُ رسول الله على إقامِ الصّلاة وإيتاءِ الزّكاة والنُّصح لكلِّ مسلم. والناصح لا يفضَح ولا يشهِّر، ولكن يكتُم ويسعَى في الخيرِ جُهدَه، هذا خلُق المؤمن حقًّا، غيرُ المؤمن شامِتٌ وناشرٌ للخطأ ومشِيعٌ للفاحشة وفَرِح بالنقصانِ، نسأل الله العفوَ والعافية.
من حقِّ المؤمِن على المؤمن سترُ عورته، فيستُره إذا كان هذا السِّتر يردَعُه عن إجرامه، فإذا [وقع] على خطأ مِنه ستَر عَورتَه بعدَ النّصيحة، فلا يفضَحُه أمام الأشهادِ، ولا ينشر خِزيَه، ولكن ينصَح ويستر ويحِبّ أن لا تشيعَ الفاحشة، مخالفًا لأولئك الذين يفرَحون بالأخطاء ويشيعون الباطل، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
مِن حقِّ المؤمن على المؤمِن تنفيسُ كُربَتِه وتفريج همِّه وتيسير عُسرِه قدرَ ما يمكِنُه، فذاك مِن حقِّ المؤمِن على المؤمن، وفي الحديث يقول : ((من نفَّس عن مؤمنٍ كُربة من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كُرَب يوم القِيامة، ومن يسَّر على معسِرٍ يسَّر الله له في الدنيا والآخرة، ومن ستَر مسلمًا سترَه الله في الدنيا والآخرة)).
ومِن حقِّ المؤمن على المؤمن وقوفُه معه عند الأزمات ومساعدتُه في المواقف المحرِجة، وفي الحديث: ((والله في عونِ العبد مَا دامَ العبدُ في عون أخيه)).
مِن حقِّ المؤمن على المؤمن أن يشيرَ عليه بطُرُق الخير إن استشاره في أمورِ دينِه ودنياه، فيشيرُ عليه بما يحبّه لنفسه، فإن المستَشَار مؤتمن، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فإذا استشارك في أمرٍ ما فأشِر عليه بما تعلَمه خيرًا وما تظنُّه خيرًا على قدرِ ما وهبك الله من المعرِفة والفَهم، وإن قصُر عِلمُك وقلَّ إدراكُك في هذا فأحِله أو استَعِن بمن تعلَم أنه يهدِي إليه مشورةً طيِّبة حتى لا يقع المسلم في الخَطَأ.
مِن حقِّ المؤمن على المؤمن أن ييسِّر عليه قضاءَ الدَّين إذا تعذَّر عليه ذلك، ولا يكلِّفه ما لا يطيق، ولا يرفع شكايَةً عليه، ولا يفضحه أمامَ الخَلق، بل يصبِر حتى ييسِّر الله الأمورَ، قال تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]. ويَومَ القيامة يدخِل الله عبدًا من عبيدِه الجنّة؛ عمَلُه: كان يوصي غِلمَانه أن ييسِّروا على الموسِرين وينفِّسوا على المعسِرين، قال الله: أنا أحقُّ بذلك منك فأمَر فأدخِل الجنّة.
مِن حقِّ المؤمن على المؤمن أن يحمِيَ عِرضه عندما يَطعَن فيه الطاعنون ويقدَحُ فيه القادحون وينتَهِش عرضَه المغرِضون الفارِغون من الخيرِ، يحمي عِرضَ أخيه المسلم، ولا يدَع لحقير ولا ضعيفِ الإيمان أن ينبَسِطَ في عرض أخيه ويتَّهمه بما يعلَم الله براءَتَه منه، فمن انتُقِص عنده عرضُ أخيه المسلم فحمَاه ودافع عنه فإنَّ الله جلَّ وعلا يقِي وجهَه عذابَ النار يومَ القيامة، وينصره في موضِعٍ يحبّ فيه نصرتَه، ومن خذَل أخاه في موضعٍ يحبّ أن ينصَرَ فيه خذلَه الله في مكانٍ يحبّ أن يُنصَرَ فيه، فلا تدَع لذوي الأخلاقِ السيّئة الانبِساط في أعراض المسلمين والقَدح فيهم بما هم برَءَاءُ منه، احمِ أعراضَهم وصُن أعراضَهم يحمِك الله من عذابِه يومَ القيامة.
ومِن حقِّ المؤمن على المؤمن أن لا يسعَى بنميمةٍ تفرِّق بين الأصحابِ وتحدِث بينَ الجماعة تصدُّعًا وتفرّقًا، فالنّمّام لئيم، يفرِّق بين الأخ وأخيه والصّديق وصديقهِ، وربما فرَّق بين ذوي الرحم وبين الأولاد وآبائهم وبين الزّوجات وأزواجِهِم.
ومِن حقِّ المؤمن على المؤمن أن يكُفَّ الأذى عنه قوليًّا أو فعليًّا، ففي الحديث: ((المسلِم من سلِم المسلمون من لسانه ويدِه، والمؤمن من أمِنَه الناس على دِمائهم وأموالهم)).
أيّها المسلم، حقُّ الإيمان يقتضِي منك ما بيَّنه النبيّ بقوله: ((المؤمِن أخو المؤمن؛ لا يظلمه، ولا يكذِبه، ولا يحقره، ولا يخذله، التَّقوى ها هنا، بحسب امرِئٍ من الشرّ أن يحقِر أخاه المسلِم، كلُّ المسلِم على المسلم حرَام: دمُه وماله وعرضه)).
أيّها المسلم، فمن حقِّ المسلم عليك أن لا تحدِّثَه حديثَ كذِب يظنُّك صادقًا، وربما حدَّث به فاتُّهِم بالكذب. ومِن حقِّه عليك أن لا تظلِمَه بأيّ مظلمةٍ في دمٍ أو مال أو عِرض، لا تجحَد له حقًّا، ولا تبخَس له حقًّا، أعطه حقَّه وأوفه كما تحبّ أن تُعامَل. لا تخذله بين الناس، وتنشر فضائِحَه بين الناس، وتستغِلّ علمك بما خفيَ على الغير، فتخذله في المجتمع، وتبدي لهم عورَتَه وزلاّتِه، بل استُرها، واسأل الله له العفوَ والعافية، ومن أظهَر الشماتَةَ بأخيه فربما يعافِيه الله ويبتَليه، وفي الأثَر الآخر: "مَن عيَّر أخاه بذنبٍ لم يمُت حتى يعمَلَ ذلك الذنب". ولا تحقِره، فهو أخوك المؤمن وإن علَوتَه جاهًا أو مالاً أو نسبًا، لكن أخوّة الإيمان فوقَ كلِّ هذا الاعتبار. فالمؤمنُ الصادق يرََى أخوّةَ الإيمان أخوّةً باقية، لا يحمِله جاهه ومركزُه أن يحتَقِر المؤمنين الذين أقلّ منه جاهًا ومركزًا، ولا يحمِله ماله وتجارَته أن ينظرَ إلى إخوانِه الفقراء من المؤمِنين نظرَ الازدِراء والاحتقار، ولا تحملنّه قوّتُه ونشاطه أن ينظرَ إلى الضعفاءِ نظرةَ الاحتقار والازدراء، بل المؤمن له عِنده شأنُه وقيمتُه، والتفاضلُ عند الله إنما هو بالأعمال الصالحة، وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فِيِه منَ الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستَغفِر الله العظيم الجليل لي ولَكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذَنب، فاستغفروه وتوبُوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
|