أما بعد:
أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فمن اتقى الله حفظه، ويسر له أمره، وهداه إلى رشده.
عباد الله، لقد بعث الله نبيه محمداً بالهدى ودين الحق، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه. فشمل دينه أحكاماً ووصايا، وأوامر وتوجيهات في نظام متكامل مربوط برباط الفضيلة بجميع أنواعها وشتى كمالاتها ووسائلها.
وإن من أعظم مقاصد هذا الدين؛ إقامة مجتمع طاهر، الخلق سياجه، والعفة طابعه، والحشمة شعاره، والوقار دثاره، مجتمع لا تهاج فيه الشهوات، ولا تثار فيه عوامل الفتنة، تضيق فيه فرص الغواية، وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة.
ولقد خُصَّت المؤمنات بتوجيهات في هذا ظاهرة، ووصايا جليلة.
فعفة المؤمنة نابعة من دينها، ظاهرة في سلوكها، ومن هنا كانت التربية تفرض الانضباط في اللباس سترة واحتشاماً، ورفضاً للسيرة المتهتكة والعبث الماجن.
فشرع الحجاب ليحفظ هذه العفة ويحافظ عليها، شرع ليصونها من أن تخدشها أبصار الذين في قلوبهم مرض.
وأحكام الحجاب في كتاب الله، وفي سنة رسوله صريحة في دعوتها، واضحة في دلالته، ليست مقصورة على عصر دون عصر، ولا مخصوصة بفئة دون فئة.
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لاِزْوٰجِكَ وَبَنَـٰتِكَ وَنِسَاء ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59].
تقول أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما: ((لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية))[1].
والجلباب: كل ساتر من أعلى الرأس إلى أسفل القدم، من ملاءة وعباءة، وكل ما تلتحف به المرأة فوق درعها وخمارها.
وإدناء الجلباب يعني: سدله وإرخاؤه على جميع بدنها، بما في ذلك وجهها. وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما: هوتغطية الوجه من فوق رأسها، فلا يبدو إلا عين واحدة.
وما خوطب به أمهات المؤمنين أزواج النبي مطالب به جميع نساء المؤمنين.
يٰنِسَاء ٱلنَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ ٱلنّسَاء إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلاْولَىٰ [الأحزاب:32، 33].
فنهى عن الخضوع بالقول والتبرج؛ تبرج الجاهلية الأولى، وأمر بالمعروف من القول، ولزوم القرار في البيوت.
نساء المؤمنين في ذلك كنساء النبي ، بل هو في حق نساء المؤمنين آكد وأولى كما لا يخفى.
وما قوله سبحانه: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ ٱلنّسَاء [الأحزاب:32]. إلا تأكيداً لهذا؛ إذ المقصود بيان أنهن محل الأسوة والامتثال الأول، ومن بعدهن أسوتهن.
وفي هذا يقول أبو بكر الجصاص: وهذا الحكم وإن نزل خاصاً في النبي وأزواجه، فالمعنى فيه عام فيه وفي غيره.
وفي مقام آخر ـ أيها المؤمنون والمؤمنات ـ يقول الله عز وجل: وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ [النور:31].
ولقد ذكر في الآية زينتان: إحداهما لا يمكن إخفاؤها وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولم يقل إلا ما أظهرن منها، فعُلم بهذا: أن المراد بالزينة الأولى زينة الثياب، أما الزينة الثانية، فزينة باطنة يباح إظهارها لمن ذكرتهم الآية: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ... إلخ الآية، وأنت خبير أيها المؤمن- وخبيرة أيتها المؤمنة- بأن ممن رخص في إبداء الزينة أمامهم: الأطفال، وغير أولي الإربة من الرجال. والوجه مجمع الحسن ومحط الفتنة، فهل يرخص كشفه للبالغين وأولي الإربة من الرجال. الأمر في هذا جلي.
وفي نفس الآية الكريمة: وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ [النور:31].
وهو ما يتحلى به في الأرجل من خلخال وغيره، فإذا كان صوت الخلخال بريداً إلى الفتنة، فكيف بالوجه الذي يحكي الجمال والشباب والنضارة؟! وصوت الخلخال يصدر من فتاة وعجوز، ومن الجميلة والدميمة.
أما الوجه فلا يحتمل إلا صورة واحدة.
يقول صاحب الدر المختار في فقه أبي حنيفة رحمه الله: وتُمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال لخوف الفتنة كمسِّه، وإن أُمن الفتنة. ويقول عليه الشارح ابن عابدين رحمه الله: المعنى أنها تُمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة؛ لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة، وأما قوله: (كمسه) أي: كما يمنع من مس وجهها وكفيها، وإن أمن الشهوة؛ لأنه سبيل إلى الشهوة والفتنة، فكذلك يُغطى الوجه؛ لأنه طريق إلى الفتنة.
وقبله قال أبو بكر الجصاص: والمرأة الشابة مأمورة بستر وجهها، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج؛ لئلا يطمع فيها أهل الريب.
وفي السنة أيها المؤمنون والمؤمنات حين أبيح للخاطب النظر من أجل الخطبة، فغير الخاطب ممنوع من النظر. والمقصود الأعظم من النظر هو الوجه؛ ففيه يتمثل جمال الصورة.
وحينما قال عليه الصلاة والسلام: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة))، قالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع الناس بذيولهن؟ - أي: الأطراف السفلى من الجلباب والرداء- قال: ((يرخين شبراً)) قالت: إذن تنكشف أقدامهن. قال: ((فيرخينه ذراعاً، ولا يزدن عليه))[2].
فإذا كان هذا في القدم فالوجه أكثر فتنة فلا يعدو أن يكون تنبيهاً بالأدنى على الأعلى. والحكمة والنظر تأبيان ستر ما هو أقل فتنة، والترخيص في كشف ما هو أعظم فتنة.
أيها الإخوة والأخوات:
ومهما قيل في الحجاب، في كيفيته وصفته، فما كان يوماً عثرة تمنع من واجب، أو تحول دون الوصول إلى حق، بل كان ولا يزال سبيلاً قويماً يمكِّن المرأة من أداء وظيفتها بعفةٍ وحشمةٍ وطهرٍ ونزاهةٍ على خير وجهٍ وأتم حال.
وتاريخ الأمة شاهد صدق لنساء فُضْلَيات جمعن في الإسلام أدباً وحشمةً وستراً ووقاراً وعملاً مبروراً، دون أن يتعثرن بفضول حجابهن، أو سابغ ثيابهن.
وإن في شواهد عصرنا من فتياتنا المؤمنات، متحجبات بحجاب الإسلام، متمسكات بهدي السنة والكتاب قائمات بمسؤولياتهن، خيرٌ ثم خيرٌ ثم خير من قرينات لهن، شاردات كاسيات، عاريات مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، متبرجات بزينتهن تبرج الجاهلية الأولى.
وليعلم دعاة السفور، ومن وراءهم أن التقدم والتخلف له عوامله وأسبابه، وإقحام الستر والاحتشام والخلق والالتزام عاملاً من عوامل التخلف، خدعة مكشوفة، لا تنطلي إلا على غُفُلٍ ساذج، في فكره دخل، أو في قلبه مرض.
ودعاة السفور ليسوا قدوة كريمة في الدين والأخلاق، وليسوا أسوة في الترفع عن دروب الفتن، ومواقع الريب إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ [المائدة:55، 56].
أيها الإخوة، إن وظيفة المرأة الكبرى، ومهمتها العظمى في بيتها وأسرتها وأولادها، وكل ما تتحلى به من علم ووعي يجب أن يكون موجهاً لهذه المهمة وتأهيلاً لهذه الوظيفة.
الرجل هو الكادح في الأسواق والمسؤول عن الإنفاق، والمرأة هي المربي الحاني، والظل الوارف للحياة، كلما اشتد لفحها، وقسا هجيرها.
وإن انسلاخ أحد الجنسين عن فطرته من أجل أن يلحق بجنس ليس منه؛ تمرد على سنة الله، واعوجاج عن الطريق المستقيم. ولن يفيد العالم من ذلك إلا الخلل والاضطراب، ثم الفساد والدمار. وما لُعن المتشبهون من الرجال بالنساء ولا المتشبهات من النساء بالرجال، إلا من أجل هذا.
وسوف تحيق اللعنة، ويتحقق الإبعاد عن مواقع الرحمة في كل من خالف أمر الله، وتمرد على فطرة الله.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد . أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه أبو داود في: اللباس، باب: في قوله تعالى: يدنين عليهن من جلابيبهن (4101)، وصححه الألباني في: صحيح أبي داود (3456).
[2] صحيح، أخرجه أوله البخاري في: المناقب – باب: قول النبي : ((لو كنت متخذاً خليلاً)) (3665)، ومسلم في: اللباس والزينة، باب: تحريم جر الثوب خيلاء وبيان حد ما يجوز (2085)، وتمامه عند الترمذي في: اللباس – باب: ما جاء في جر ذيول النساء (1731) وقال: حديث حسن صحيح، وكذا عند النسائي في: الزينة، باب: ذيول النساء (5336)، وصححه المناوي في: فيض القدير (6-113). |