الحمد لله الذي ألف بين قلوب عباده المؤمنين، وجعلهم أنصارًا وأعوانًا وإخوة في الدين، وحذرهم من الفرقة والاختلاف والعودة إلى النعرات الجاهلية النتنة التي نهى عنها رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد ولد آدم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: أيها المسلمون، إن من أهم ما يدعو إليه الدين بعد التوحيد هو جمع الكلمة وائتلاف القلوب والمشاعر واتحاد الغايات وتوحيد الهدف والاعتصام بحبل الله المتين؛ لأنه بتوحيد الصفوف واجتماع الكلمة الضمان ببقاء تماسك الأمة بتوكلها على الله تعالى ونجاح رسالتها، ومن أجل هذا فقد اعتبر الشرع جميع المسلمين إخوة في الدين فقال الله تعالى: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((المسلم أخو المسلم))، وقال أيضًا: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا))[1]، وفي حديث آخر وصف رسول الله المجتمع الإسلامي بالجسد الواحد المترابط الأجزاء فقال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[2]، إنه لمثل رائع عظيم.
وإلى جانب هذا فقد شرع لنا ديننا الإسلامي الحنيف كل ما يقوي عوامل الألفة والاتحاد، ويزيل عوامل البغضاء والكراهة والاختلاف والفرقة، فأمرنا بالسلام وربط بينه وبين الإيمان وبين دخول الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))[3]، إنه السلام، أعظم تحية تقدير واحترام.
ونهانا أيضًا عليه الصلاة والسلام عن الهجران؛ لأنه يسبّب الكراهة والبغضاء والبعد والحقد والتناحر والتدابر والتنازع والتفرق، فقال: ((لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))[4]. فلتحرص ـ أخي المسلم ـ على الخيرية ببدئك بالسلام؛ لتنال من الله المثوبة والأجر والإكرام.
ولما كان الاختلاف ـ يا عباد الله ـ مفسدًا لدين الله ودنيا الناس فقد اعتبره الإسلام انفصالاً عنه وكفرًا، فقال تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]. إن الفُرقة شطط كبير وجرم عظيم يبدّد المجتمع ويمزّق المجتمع، عاقبته وخيمة: خيبة في الدنيا وخسارة في الآخرة، ومآله شر مآل، ويجر إلى أسوأ الأحوال.
وحذر الله المسلمين من الخلاف في الدين والتفرّق في فهمه شِيعًا متناحرة وأحزابًا متلاعنة كما فعل الأولون، فقال الله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وكما قال الله تعالى: فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53].
فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الشقاق يضعف الأمم، ويوهن المجتمعات القويّة، ويميت الأمم الضعيفة، ولذلك جعل الله أوّل عظة للمسلمين بعد انتصارهم في معركة بدر أن يوحّدوا صفوفهم ويلمّوا شملهم ويجمعوا أمرهم، وذلك عندما تطلّعت بعض النفوس لحظها من الغنائم، فقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ قُلِ ٱلأنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، آمنا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيًا ورسولاً.
ثم أفهمهم أن الاتحاد في العمل لله هو طريق النصر الأكيد واتجاه الهدف وتوحيد الكلمة، كما أن الفرقة والتنازع هي طريق الهزيمة والخسران، فقال الله تبارك وتعالى: وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
ولقد كان للمسلمين درس عظيم وعظة كبيرة على مر الأجيال في يوم أحد والضربة الموجعة التي أفقدت المسلمين من رجالهم سبعين بطلاً، وقلبت النصر إلى هزيمة على الرغم من الإيمان والتضحية النادرة في الدفاع عن الحق والاستبسال للموت أو حرز النصر، وما ذلك إلا لأن بعض من كان بالجبل من الرماة وهم عدد قليل ـ رحمهم الله تعالى ـ كانوا على اجتهاد في رأيهم، فتنازعوا وانقسموا وخالفوا بعضهم اجتهادًا منه وظنًا أن المعركة انتهت، فنسوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما صور لنا ذلك القرآن الكريم: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلاْخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152].
ولو اعتبر المسلمون بذلك وعقلوا أحوالهم في هذه المرحلة الراهنة العصيبة من تاريخهم لأدركوا أن سبب ما نزل بهم من نكبات ولحقهم من العار والتقهقر والتراجع وانحسار ديار الإسلام هو نتيجة التفرق والنزاع الحاصل بين أفراد الأمة الإسلامية بفعل الهجمات الصليبية والصهيونية التي مهدت الطريق بالخفاء لتقسيم المسلمين أحزابًا وشيعًا منحلة واهية ودويلات متدابرة ممزقة، مستغلين القاعدة المفسدة التي تقول: (فرق تسد)، قاتل الله الكفار أنى يؤفكون، وجمع الله كلمة المسلمين على الحق والهدى.
فيا عباد الله رحمكم الله، يجب عليكم تلافي ذلك، كما يجب عليكم تصحيح أوضاعكم ورأب الصدع وتوحيد الصفوف، وأن تنهضوا لترميم ما وهى من بنيانكم واسترداد ما سلب من مقدساتكم وما تحطم من كيانكم وما تردى من معنوياتكم وانقسام بينكم واختلاف في الاتجاهات وتباين في الأهداف وتشاحن، فانبذوا ذلك كله، ولا يتمّ كل ذلك ـ أيها المسلمون ـ إلا بالرجوع إلى مصدر عزّتكم كتاب الله وسنة رسول الله والالتفاف وتوحيد الكلمة ووحدة الصفوف والغايات والإخلاص الأكيد لدين الله جل وعلا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء:115].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|