أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وعظموا أمر ربكم، واستغفروه ثم توبوا إليه وَٱتَّبِعُـواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُـمْ [الزمر:55].
عباد الله، لقد جعل الله البيوت سكناً يأوي إليها أهلها، تطمئن فيها نفوسهم، ويأمنون على حرماتهم، يستترون بها مما يؤذي الأعراض والنفوس، يتخففون فيها من أعباء الحرص والحذر.
وإن ذلك لا يتحقق على وجهه إلا حين تكون محترمة في حرمتها، لا يستباح حماها إلا بإذن أهلها. في الأوقات التي يريدون، وعلى الأحوال التي يشتهون: يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:27، 28].
إن اقتحام البيوت من غير استئذان؛ هتك لتلك الحرمات، وتطلع على العورات، وقد يفضي إلى ما يثير الفتن، أو يهيئ الفرص لغوايات تنشأ من نظرات عابرة.. تتبعها نظرات مريبة.. تنقلب إلى علاقات آثمة، واستطالات محرمة.
وفي الاستئذان وآدابه ما يدفع هاجس الريبة، والمقاصد السيئة.
أيها الإخوة المؤمنون، إن كل امرئ في بيته قد يكون على حالة خاصة، أو أحاديث سرية، أو شؤون بيتية، فيفجؤه داخل من غير إذن قريباً كان أو غريباً، وصاحب البيت مستغرق في حديثه، أو مطرق في تفكيره، فيزعجه هذا أو يخجله، فينكسر نظره حياءً، ويتغيظ سخطاً وتبرماً.
ولقد يقصِّر في أدب الاستئذان بعض الأجلاف ممن لا يهمه إلا قضاء حاجته، وتعجُّل مراده، بينما يكون دخوله محرجاً للمزور مثقلاً عليه.
وما كانت آداب الاستئذان وأحكامه إلا من أجل ألا يفرِّط الناس فيه أو في بعضه، معتمدين على اختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة، أو معولين على أوهامهم في عدم المؤاخذة، أو رفع الكلفة.
تأملوا أيها المؤمنون قوله سبحانه: حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ [النور:27].
إنه استئذان في استئناس، يعبر عن اللطف الذي يجب أن يكون عليه الزائر أو الطارق مراعاةً لأحوال النفوس وتهيؤاتها، وإدراكاً لظروف الساكنين في بيوتاتهم وعوراتهم.
وهل يكون الأُنس والاستئناس إلا بانتفاء الوحشة والكراهية ؟!
أدبٌ رفيع يتحلى به الراغب في الدخول لكي يطلب إذناً لا يكون معه استيحاش من رب المنزل، بل بشاشة وحسن استقبال.
ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين مستأنسين، فذلك عون على تأكيد روابط الأخوة الإسلامية.
ولقد بسطت السنة المطهرة هذا الأدب العالي، وازدان بسيرة السلف الصالح تطبيقاً وتبييناً.
فكان نبيكم محمد إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن، أو الأيسر، ويقول: ((السلام عليكم، السلام عليكم))[1].
ووقف سعد بن عبادة مقابل الباب فأمره النبي أن يتباعد. وقال له: ((وهل الاستئذان إلا من أجل النظر؟!))[2].
وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: اطلع رجل من جحرٍ في حُجَر النبي ومع النبي مدرى ـ أي: مشط ـ يحك به رأسه، فقال النبي : ((لو أعلم أنك تنظر؛ لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر))[3].
والمستأذن ـ أيها الإخوة ـ يستأذن ثلاث مرات فإن أُذن له وإلا رجع. وقد قيل: إن أهل البيت بالأولى يستنصتون، وبالثانية يستصلحون، وبالثالثة يأذنون أو يردُّون، لكن قال أهل العلم: لا يزيد على ثلاثٍ إذا سُمع صوته وإلا زاد حتى يعلم أو يظن أنه سُمع.
ويقول في استئذانه: السلام عليكم، أأدخل؟. فقد استأذن رجل على النبي وهو في بيته ((فقال: أألج؟ فقال النبي لخادمه: اخرج إلى هذا! فعلِّمه الاستئذان فقل له: قلْ: السلام عليكم، أأدخل ؟ فسمعه الرجل، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي ، فدخل))[4].
وله أن يستأذن بنداءٍ أو قرع أو نحنحة أو نحو ذلك.
تقول زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: كان عبد الله إذا دخل تنحنح وصوَّت.
ويقول الإمام أحمد: يستحب أن يحرك نعله في استئذانه عند دخوله حتى إلى بيته؛ لئلا يدخل بغتة. وقال مرةً: إذا دخل يتنحنح.
ومن الأدب أن الطارق إذا سئل عن اسمه فليبينه، وليذكر ما يُعرف به. ولا يجيب بما فيه غموضٌ أو لبسٌ. يقول جابر رضي الله عنه: أتيت إلى النبي في دين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: ((من ذا؟)) فقلت: أنا، فقال النبي : ((أنا أنا !!!)) كأنه كرهها[5].
وإذا قرع الباب فليكن برفق ولين من غير إزعاج أو إيذاء ولا ازدياد في الإصرار، ولا يفتح الباب بنفسه، وإذا أذن له في الدخول فليتريث، ولا يستعجل في الدخول، ريثما يتمكن صاحب البيت من فسح الطريق وتمام التهيؤ، ولا يرم ببصره هنا وهناك، فما جعل الاستئذان إلا من أجل النظر.
والاستئذان حقٌّ على كل داخل من قريب و بعيد من الرجل والمرأة، ومن الأعمى والبصير.
عن عطاء بن يسار، أن رسول الله سأله رجل فقال: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ فقال: ((نعم)) قال الرجل: إني معها في البيت؟ فقال رسول الله : ((استأذن عليها)). فقال الرجل: إني خادمها. فقال له رسول الله : ((استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟)) قال: لا. قال: ((فاستأذن عليها))[6].
ويقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: إذا دخل أحدكم على والدته فليستأذن.
والأعمى يستأذن كالبصير، فلربما أدرك بسمعه ما لا يدركه البصير ببصره.
((ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه، صُبَّ في أذنه الآنك يوم القيامة))[7] والآنك هو الرصاص المذاب.
أيها الإخوة في الله، وهناك أدب قرآني عظيم، لا يكاد يفقهه كثير من المسلمين. إنه قول الله عزَّ وجلَّ: وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ [النور:28].
إن من حق صاحب البيت أن يقول بلا غضاضة للزائر والطارق: ارجع. فللناس أسرارهم وأعذارهم، وهم أدرى بظروفهم، فما كان الاستئذان في البيوت إلا من أجل هذا.
وعلى المستأذن أن يرجع من غير حرج، وحسبه أن ينال التزكية القرآنية.
قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها. لقد طلبت أن أستأذن على بعض إخواني ليقول لي: ارجع، فأرجع وأنا مغتبط. لقوله تعالى: وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ [النور:28]. ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره.
إن من الخير لك ولصاحبك أيها الطارق، أن يَعتذر عن استقبالك بدلاً من الإذن على كراهية ومضض، ولو أخذ الناس أنفسهم بهذا الأدب، وتعاملوا بهذا الوضوح؛ لاجتنبوا كثيراً من سوء الظن في أنفسهم وإخوانهم.
فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ والتزموا بدينكم، واستمسكوا بآدابه، وحافظوا على مشاعر الأخوة، وتخيروا في أوقات الزيارات، وقدروا لإخوانكم أحوالهم وظروفهم، والتمسوا لهم الأعذار، ودعوا الأعراف والتقاليد الخاطئة.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد ، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه أبو داود كتاب: الأدب، باب: كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان (518)، والبخاري: في الأدب المفرد، باب: كيف يقوم عند الباب (1078)، ورمز له السيوطي في: الجامع الصغير (6523) بالصحة، وصححه الألباني في: الأدب المفرد (822).
[2] صحيح، أخرجه الطبراني في: الكبير (6-22/5386) واللفظ له. وقال الهيثمي في: المجمع (8-44): رجاله رجال الصحيح، وأخرجه أبو داود في: الأدب، باب: في الاستئذان (5174)، وصححه الألباني في: صحيح أبي داود (4310).
[3] صحيح، البخاري، كتاب: الاستئذان، باب: الاستئذان من أجل البصر (6241)، ومسلم، كتاب: الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره (2156).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (5/369)، وأبو داود في: الأدب، باب: كيف الاستئذان (5177)، وابن أبي شيبة (5-242/25672)، وجوّد إسناده الحافظ كما في: الفتح (11/3) وذكر عن الدارقطني أنه: صحيح.
[5] صحيح، أخرجه البخاري في: الاستئذان، باب: إذا قال من ذا، فقال: أنا (6250) واللفظ له، ومسلم في: الآداب، باب: كراهة قول المستأذن أنا، إذا قيل من هذا (2155).
[6] إسناده صحيح إلى مرسله، أخرجه مالك في: الموطأ، كتاب: الجامع، باب: الاستئذان (1796)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/42-17600)، وأبو داود في: المراسيل، كتاب: العلم، باب: في الاستذان (ص508/484)، قال ابن عبد البر في: التمهيد (16/229): مرسل صحيح.
[7] صحيح، جزء من حديث أخرجه في: التعبير، باب: من كذب في حلمه (7042). |