الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة في الإيمان، ورد أنساب الناس إلى أبوين اثنين ليجعل الأسباب قائمة لعقد هذه الصلات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث إلى جميع الإنس والجان؛ ليتعبّدهم إلى الله الواحد الديان، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليمًا.
أما بعد: أيها الإخوة في الله، اتقوا الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى خلق البشر وجعل أساس العلائق بينهم تقوم على أساس التعارف والأخوة وتوثيق الصلات برابطة الدين، فإنها من أقوى الروابط وأسماها، لأنها لا تفرق بين إنسان وآخر إلا بميزان التقوى، والتقوى مركزها القلب، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((التقوى ها هنا)) قالها ثلاثًا ويشير إلى صدره لعظَم شأنها، فقال الله جل شأنه: يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، وقال الله تعالى: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
وهكذا أيها الناس، فالدين الخالص هو أساس أخوة وثيقة تؤلّف بين أتباعه في مشارق الأرض ومغاربها، وتجعل منهم على اختلاف الأمكنة والأزمنة وحدة متراسِخة سامقة البناء، حيث يعيش الناس في ظل هذه الأخوة الإيمانية وكأنهم أغصان انبثقت من دوحة واحدة، أو جسد واحد بأعضاء متعدّدة، وهو مصداق قول الرسول الكريم : ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[1]. إنه مثل رائع سامٍ كبيرُ القدر عظيم المعنى حقيق الواقع دقيق الوَصف جَمّ الفوائد، نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفق ويجمع ويؤلف بين المسلمين حتى يصبحوا كالجسد الواحد.
فاتقوا الله عباد الله، وحققوا أخوة الإسلام بينكم بمحبة الخير لبعضكم البعض، وإفشاء السلام فيما بينكم، والتعاون والتواصي والحرص على فعل كل الأسباب التي تقوي ذلك وتنميه، واجتنبوا كل الأسباب التي تضعف ذلك وتباعد بين المسلم وأخيه وتوهن أو تنقص وتضعف من رابطة الإخاء الكريمة التي أمر الله تبارك ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بها.
واعلموا ـ أيها الإخوة ـ أن لهذه الأخوة الإيمانية علامات لا بد أن تظهر في السلوك والمشاعر والإحساس والكتاب والكلام:
فمن علامات الأخوة أن يعرف حقوق إخوَتِه ومصالحهم عنده، ويبادر إلى تأديتها، وأن يشعر بالألم والحزن لأيّ مصيبة تقع بهم، ويندفع إلى كشف ذلك عنهم بحدود طاقته، قال رسول الله : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة))[2]. والستر خلاف التستّر أو قلب الحقائق أو المداهنة أو المحاباة أو الدفاع بالباطل أو السكوت عن الحق أو المجاملة فيه.
ومن حق الأخوة وعلاماتها أن يشعر المسلم بأن إخوانه ظهير له في السراء والضراء، وأن قوته لا تتحرك في الحياة وحدها إلا إذا تساندت مع قوى إخوانه المؤمنين، لذا كان من الواجب أن يعمل من أجل هذا التساند ليشدّ من أزر نفسه وإخوانه لقوله : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا))[3]، وفي بعض الروايات: وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن مظاهر الأخوة وجود التناصر بين المسلمين من أجل إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل وردع المعتدي وإجارة المهضوم ونصرة المظلوم، فلا يجوز خذلان المسلم وتركه وحده في المعترك، بل لا بد من الوقوف بجانبه على أيّ حال لإرشاده إن ضلّ، وحجزه إن تطاول، والدفاع عنه إن هوجم واستبيح، وهذا معنى قوله : ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))[4]، ونصرته إذا كان ظالمًا ردعُه عن ظلمه بأن تردَعه عن الظلم فلا تتركه يتمادى فيه وحتى يثوب إلى رشده ويقلع عن غيه.
ومن علامات الإخاء الصحيح مراعاة هذا الإخاء حتى لا يعدو عليه ما يكدره، فلا يجوز لمسلم أن يسبب لأخيه قلقًا أو تخويفًا أو هلعًا أو فزعًا أو كل ما يؤدّي إلى إيذاء أخيه والاعتداء عليه، ولهذا قال رسول الله : ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه))[5]. فحذار ـ أخي المسلم ـ من الاعتداء على أخيك، فكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)) الحديث.
وبهذا الإخاء الصحيح الخالص إخاء العقيدة السلفية الصافية الصادقة الخالصة لوجه الله تعالى لا إخاء المنافع والغايات الدنيا قامت أواصر وروابط الأخوة في الله أوّل مرة، وبها قامت دولة الإسلام دون تفريق في الجنسيات والإقليميات والعلاقات بين القاطنين والوافدين، ودون تفريق بين الأنساب والأحساب والأجناس، وإنما على التباذل في ذات الله تعالى والإيثار والسماحة والمساواة وتبادل الاحترام والحب وإسداء المعروف، وكما ورد عن رسول الله : ((سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر من السبعة: ((رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)). والمحبة في الله من أوثق عرى الإيمان، نسأل الله تعالى أن يرزقنا ذلك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءوا ٱلدَّارَ وَٱلإيمَـٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|