أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى، وإنّ ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين.
أما بعد: عباد الله، إنّ شريعة الإسلام قد أوجبت على كل مسلمٍ أنّ يتقي الله عز وجل إذا تحدث عن الله أو تحدث عن رسول الله ، واجبٌ على كل مسلم أن يتحرّى في كلامه، ليحل الحلال ويحرم الحرام، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات ويحرم الخبائث. أما إذا اعتاد الإنسان أن يطلق للسانه العنان وأنْ يتكلّم فيما يعلم وفيما لا يعلم وأن يفتي فيما يحسن وفيما لا يحسن فإنه يأتي بالطامّات العظيمات، ويتكلم بالأمور المنكرات، فيحل الحرام ويحرم الحلال، ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويكون سببًا لشقّ العصا وتفريق الكلمة وزرع العداوة والبغضاء بين المؤمنين.
ربُنا جل جلاله في كتابه الكريم أصّل هذا الأصل الأصيل، وبيّن هذا الأدب القويم في خطابه لأنبيائه ورسله صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، يقول ربنا الرحمن مخاطبًا نوحًا عليه السلام: فَلاَ تَسْأَلْنِـى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ [هود:46]، ويخاطب نبيه محمد فيقول له: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـٰنًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، ويخاطب كل امرئٍ مسلمٍ بقوله سبحانه: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:46].
كان رسول الله أكثر الناس التزامًا بهذا الأدب وتحليًّا بهذا الخلق، فكان يُسأل صلوات ربي وسلامه عليه عن مسائل دقيقة أو جليلة في أصول الدين أو فروعه وهو النبي الأكرم الرسول الأعظم أعلم الخلق بالله وبدينه وبشرعه، فما كان يستنكف صلوات ربي وسلامه عليه أنْ يقول: ((لا أدري))، يقول: ((لا أدري)) وهو العالم الفذ الإمام القدوة الرسول الخاتم صلوات ربي وسلامه عليه، يقول على ملأٍ من الناس: ((لا أدري)).
لمّا سأله سائل: يا رسول الله أيُّ البقاع أحبّ إلى الله؟ فقال: ((لا أدري، حتى أسأل جبريل))، ولمّا سأل جبريل عليه السلام قال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، ثم جاءه بالجواب فقال عليه الصلاة والسلام: ((إنّ أحبّ البقاع إلى الله المساجد، وإنّ أبغض البقاع إلى الله الأسواق)).
وهكذا أصحابه رضوان الله عليهم، كانوا أبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها هديًا وأقلها تكلّفًا، من نصر الله بهم الدين وحفظ بهم الملة، كانوا رضوان الله عليهم أعظم الناس ورعًا وأقلّهم في الدين كلامًا، ربّما سئل أحدهم سؤالاً فيحيل على أخيه، وأخوه يحيل على غيره، وهكذا ما زال السائل ينتقل من واحد إلى آخر حتى يرجع السؤال إلى الأول، يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: أدركت بهذا المسجد يعني مسجد رسول الله عشرين ومائة من أصحاب رسول الله كلهم يُسأَل عن المسألة فيقول: "لا أدري".
أبو بكر الصديق على المنبر الشريف يقول: (أيُّ سماء تظلّني وأيّ أرضٍ تقِلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟!)، عمر بن الخطاب الإمام الفاروق أمير المؤمنين وخليفة المسلمين مَن ضرب الله الحقَّ على قلبه ولسانه من لو رآه الشيطان سالكًا فجًّا لسلك فجًّا آخر، يقرأ قول الله عز وجل: وَفَـٰكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31]، ثم يقول وهو على المنبر: (هذه الفاكهة، فما الأبُّ؟)، ثم يقول: (إنّ هذا لهو التكلف يا ابن الخطاب! وماذا على ابن أمّ عمر لو جهل آيةً في كتاب الله؟!)، على بن أبي طالب يقول: (وأبردها على الكبد) قيل: ما هي؟ قال: (لا أدري)، ويقول ابن عباس: (ينبغي للعالِم أنْ يورّث جلساءه "لا أدري" حتى تكون أصلاً يفزعون إليه)، ويقول عبد الله بن عمر: (العلم ثلاثة: آيةٌ مُحكمة، وسنة ماضية، ولا أدري)، جعل "لا أدري" ثلث العلم، وجعلها غيره نصف العلم، وهكذا حتى أثمرت هذه الشجرة ثمارًا مباركة فقعَّدت للدين قواعده، وثبّتت أصوله، ومهّدت فروعه.
وما زال هذا العلم الشريف يحمله من كل خلفٍ عُدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، حتى نبتت في زماننا هذا نابتة وظهرت ظاهرة، قومٌ يحسنون القيل، ويُسيئون الفعل، يُكثرون الكلام، ويدبجون الكتُب، وينشرون المقالات، ويلقون الخطب، ولهم ضجيجٌ وزفيرٌ وزئيرٌ وصيتٌ وصهيلٌ بين الناس، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. كتبهم ومقالاتهم خطَبُهم وأقاويلهم يراد بها تقويضُ الدين من أساسه. قومٌ من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، لكنهم ـ نسأل الله العافية ـ يكتبون كلامًا ويلقونَه، إنْ أحسنّا الظن بهم قلنا: هم على جهلٍ عظيم، وإنْ أسأنا الظن قلنا: قلوبهم تنطوي على غيرِ الإسلام، يظهرون الإسلام ويبطنون غيره، يُلقون كلامًا ويُخفون أغراضًا. فلا بدّ ـ أيها المسلمون ـ من أنْ يُنتبه إليهم، وأنْ يُحذّر منهم لأنّ الله عز وجل قال لنبيه : هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
الكافر المعلن بحرب الإسلام المظهر لعداوته لا خوف منه، فإنّ المسلمين جميعًا يحذرونه، ينتبهون إليه، يزِنون أقواله بميزان الشرع، لا ينساقون إليه، لكنّ المصيبة كل المصيبة أنْ يكون الإنسان عليم اللسان، يُجادِلُ بالقرآن ويسرد على كلامه أدلّةً، ويسوق براهين يحسبها الناس براهين للوهلة الأولى، للنظرة العجلى، ولكنها في حقيقة الأمر خواءٌ من كل علم.
أيها المسلمون، عباد الله، في بلادنا هذه ابتلِينا بنفرٍ من هؤلاء يلبَسون مسوح العلم، هم فصحاءُ اللسان، ربّما يصلّي أحدهم بالناس الجمعة أو العيدين، وربّما يتكلم بالآيات والأحاديث، لكنه يضعها في غير مواضعها، ينتسبون إلى بيوتات دينية، ويظهرون للناس وكأنهم أهل الدين المدافعون عن بيضته الذائدون عن حماه الناطقون بكلمته، ولكنّ الحقيقة غير ذلك.
في الأسابيع المتأخرة كتابٌ ظهَر في الأسواق، واللهِ ما أتكلّم عنه إلا لأحذِّر منه ولأبيِّن للناس أن الواجب على كل مسلم أنْ يتثبّت وأنْ يتبصّر وأنْ يتبيّن؛ لئلا يحسب الورَم شحمًا، من أجل أنْ نزن الأمور بميزان الشرع، فإنّ الرجال يُعرَفون بالحق، والحق لا يعرف بالرجال، ما أقول: هذا الكلام حقّ لأنّ قائله فلان، بل أقول: فلانٌ على حقّ لأنّه قال حقًّا، لأنّه نطق صدقًا.
كتابٌ يظهر في الأسواق عنوانه: (جدلية الأصل والعَصر)، يكتبه رجلٌ يتكلّمُ باسم الدين أحيانًا، تولى الحكم في هذه البلاد مِرارًا، كتابه هذا لو أنّ الإنسان ألقى نظرَة على ثلاث صفحات منه فإنه يتبين له ما وراءه؛ تقويضٌ للدين، هدمٌ لأصوله، بلبلة لفروعه، تلبيسٌ على المسلمين، اجترار لحثالات أفكار أقوام سبقوه، ما أتى بجديد، أقوامٌ من أهل العلمنة في بلادنا العربية المسلمة في شمالنا وشرقنا وغربنا، كتاباتٌ سبقت دعت إلى مثل ما دعا إليه، تكلمت بمثل ما تكلم به، وباء أصحابها بالخزي في الدنيا عند عبادِ الله المؤمنين، ونسأل الله أنْ يتوب علينا أجمعين.
ماذا نجد في هذا الكتاب من كلام باسم الدين؟! فقرات ثلاث أقتصرُ عليها:
في صفحة 23 تحت عنوان: (مفهوم الإسلام) يوردُ آيتين من كتاب الله، قوله سبحانه: إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ [آل عمران:19]، وقوله سبحانه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ [آل عمران:85]، ثمّ يقول: "كثير من المفسّرين احتجّ بهذه الآية على أنّ المقصود بالإسلام الرسالة المحمدية، ولكن الآية 84 توسِّع هذا المفهوم"، ويعني بالآية 84 قوله تعالى: قُلْ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84]، يقول: "توسِّع هذا المفهوم، وكذلك حديث: ((نحن معاشر الرسل أولاد علات))".
أقول: أيها الإخوة الكرام، هذا الكلام فيه من التدليس والتلبيس وفساد المعتقد وسوء الفكر شيءٌ عظيم، أما قوله: "كثير من المفسرين احتج بهذه الآية" فهذا كلامٌ باطل، فإنّ كلامه يوهم أنّ كثيرًا من المفسرين احتجوا، ولكنّ بعضهم يرى مثلما رأى، وهذا هو الكذب بعينه، فالمفسّرون كلهم أجمعون ابتداءً برسول الله وإلى يومنا هذا، أجمعوا على أنّ هذه الآية مرادٌ بها الإسلام الذي أنزله الله على محمد ، الإسلام الدين المعروف بحدوده وتفاصيله وعقائده وشعائره وشرائعه، الدين الذي تلقّاه محمّد من ربه هو المقصود بهاتين الآيتين: إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ [آل عمران:19]، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا [آل عمران:85]، أي: ومن يبتغ غير الدين الذي جاء به محمّد فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، وقد ثبت في الصحيح أنّ رسول الله محمد قال: ((والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديٌ أو نصرانيٌ ثم لا يؤمن بي إلا أكبّه على وجهه في النار))، ما بقي بعد هذا الكلام كلام، إجماع أهل العلم على أنّ الأنبياء جميعًا من لدن آدم إلى محمد دينهم واحد، دينهم الإسلام بمعنى الاستسلام لله عز وجل بالطاعة والانقياد له وقبول ما أنزله، الإسلام معناه الخلوص من الشرك، هذا الذي دعا له الأنبياء جميعًا.
الآن ـ أيها المسلمون عباد الله ـ يُراد من هذا الكلام الترويج لفكرة خاسئةٍ خاسرة: أنّ اليهود والنصارى يمكن أنْ يشملهم تعريف الإيمان أو مظلة الإسلام كما قال غيره: "الإسلام الواسع"، لكن اليهود والنصارى ما كتابهم؟ ما ديانتهم؟ ما أفعالهم؟ ما معتقداتهم؟ أما اليهود فكتابهم توراة عزرا، التوراة التي كتبها عزرا، لا التوراة التي أنزلها الله على موسى، وتلمود الحاخامات، التلمود تفسيرٌ للتوراة دوّنه الحاخامات.
ثم بعد ذلك النصارى ما كتابهم؟ الأناجيل المحرّفة الأربعة التي يعترِفون بها، ثم رسائل بولس، وهو شاؤول اليهودي الذي دخل في النصرانية فأفسدها ولقّنهم معتقد التثليث والقول ببُنوّة عيسى عليه السلام، فزعم أنّ عيسى ابن الله، ثم بعد ذلك هم الذين استحلّوا الربا، هم الذين أكلوا الخنزير، هم الذين شربوا الخمور، هم الذين فعلوا الأفاعيل، أهؤلاء جميعًا يُراد لنا أنْ نعتقد بمثل هذا الكلام أنهم مسلمون، وأنّ المظلة تسعهم؟! لا شك أنّ هذا باطل.
وقد أجمع المسلمون قاطبةً على أنّ اليهود والنصارى ومن باب أولى غيرهم ممن لم يؤمن بنبوّة محمد أنهم كفّار، وقد نطقت بذلك آيات القرآن: لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ [البينة:1]، أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَـٰفَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ [الحشر:11]، لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَـٰلِثُ ثَلَـٰثَةٍ [المائدة:73]، لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]. وغير ذلك من الآيات الكثيرات والنصوص المتواترات، فيراد بهذا بمثل هذا الكلام أنْ يهدم معتقدات المسلمين وأنْ يبلبل أفكارهم، وهو في الوقت نفسه ينتسب إلى الإسلام.
اعلموا ـ أيها المسلمون عباد الله ـ أنّ كفر اليهود والنصارى مجمعٌ عليه، ومن شك في كفرهم فقد كفر، فتنبهوا لهذا.
ثم في صفحةٍ ثانية وما ذكره في الكتاب كثير، لكن في صفحة أخرى يدعو إلى تغيير فروع الدين ويختار لذلك نموذجين: الزكاة التي هي ركن الإسلام الأعظم بعد الشهادتين والصلاة، يقول: "الأحكام الإسلامية كالربا والزكاة وغيرها لا يمكن نقلها بأشكالها القديمة، ولا يمكن تطبيقها بصورة تناسب مقاصد الشريعة، فهي بحاجة إلى اجتهادٍ جديد"، ما هو هذا الاجتهاد؟ يقول في صفحة 52: "هناك حاجةٌ لمراجعة النصاب ونسبة الزكاة منه، فحسب النسب القديمة زكاة الثروة الحيوانية 2.5 في المائة، والزراعة 10 في المائة إذا كانت مسقيةً بماء السماء"، ثم يقول: "هذه النسب يجب أنْ تراجع على أساس إيجاب الزكاة على المستكفي وصرفها على المحتاج".
أيها المسلمون، عباد الله، ربنا جل جلاله لما بعث محمدًا وأنزل عليه هذه الفرائض وحدّ هذه الحدود هل خفي على علمه جل جلاله ما يكون في مستقبل الأيام، ما يحدث للناس بعد دهورٍ، بعد سنين؟! هل خفي على ربنا جل جلاله ما يكون في الناس من غنى وفقر وحاجةٍ واستكفاء وقوة وضعف وغير ذلك مما هو حادث؟! اللهم لا.
نحن نعتقد بأنّ الله عز وجل عليمٌ حكيمٌ خبيرٌ قديرٌ، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ونعتقد أنّ شرع الله عز وجل محكم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. نبينا جعل لهذه الزكاة أصنافًا، ما فرضها في كل المال، فرضها عليه الصلاة والسلام ـ وكما أجمع أهل العلم ـ في أصناف أربعة: فرضها في الذهب والفضة صنف، وفي الزروع والثمار صنف، وفي بهيمة الأنعام صنف، وفي عروض التجارة صنف رابع.
وفصّل صلوات ربي وسلامه عليه، فجعل في الذهب والفضة ربع العُشر، وفي الزروع والثمار العُشر إذا سقيت بغير جهد، ونصف العُشر فيما سُقي بالنواضح وبذل فيه الجهد، وجعل زكاة بهيمة الأنعام مفصّلة في كل أربعين شاة شاة، وفي كل ثلاثين بقرة تبيع، وليس فيما دون خمس ذودٍ صدقة، في كل خمسٍ من الإبل شاة، وفي كل عشرٍ شاتان، وهكذا يتدرج هذا النصاب، كلما اتسع المال زادت القيمة المفروضة زكاةً فيه.
الآن يأتي هذا بالذي لم يأت به الأوائل، ويطالب بأنْ تراجع هذه النسب، كأنه يعدّل على رسول الله ، يقول له: تشريعك كان مناسبًا لعصرك، لكنه لا يوافق زماننا، قد علمنا ما لم تعلم، ووصلنا إلى ما لم تصل إليه، هذه النسب التي فرضتها تفصيلاً لا بد أنْ تُعدّل، أنْ يزاد فيها من أجل أنْ نواجه حاجات الناس.
ما هذا الكلام أيها المسلمون عباد الله؟! مِن أين هذا الكلام؟! مِنْ أين أُتينا حتى يخرج رجل مِنْ بني جلدتنا وينتسب إلى ديننا ويريد أن يقوض شريعة الإسلام بمثل هذا؟! وليت الأمر اقتصر على السنة، لعل بعض الناس يقول بأنّ الزكاة قد ثبتت مقاديرها بالسنة المتواترة وأجمع عليها أهل العلم، لكن الرجل ينتقل بعد ذلك إلى القرآن نفسه، القرآن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي فرض فيه الفرائض، وحُدّت فيه الحدود، وبينت فيه الأمور، تمتدّ غارته إلى القرآن نفسه، وما أجرأه! ما أعظم جرأته!
في صفحة 57 في قول الله عز وجل: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، آية مُحكمة قطعية الثبوت قطعية الدلالة ليس فيها فهمان، وإنما الفهم فيها واحد، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ، ما قال: للرجل مثل حظ المرأتين، بل للذكر ـ لكل ذكر سواءً كان عاقلاً أو مجنونًا صغيرًا أو كبيرًا عالمًا أو أميًّا ـ مثل حظ الأنثيين، صغيرتين أو كبيرتين، جاهلتين أو متعلمتين، متزوجتين أو غير متزوجتين، النص عام. فماذا يقول؟ قال: "هذا الأمر يتعلق بأنّ الأمومة تفرض على المرأة ظروفًا تعطّل سعيها للزرق، والحقيقة أنّ الأمر ليس مرتبطًا بالأنوثة". الله عز وجل يقول: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلأنْثَيَيْنِ، وهذا يقول: "الأمر ليس مرتبطا بالأنوثة، هناك ظروف جدّت على بعض المجتمعات تعاظم فيها دور المرأة الإنفاقي لأسباب منها: نسبة الطلاق العالية وتخلي كثير من الرجال عن الإنفاق على أهلهم، هذه الظروف جعلت إنفاق النساء يبلغ نسبة معتبرة" إلى أنْ قال: "لا يمكن تطبيق أحكام الوراثة بصورة لا تراعي مقاصد الشريعة وتأخذ المستجدات في الحسبان، هكذا ينبغي أنْ تراجع أشكال الأحكام الإنسانية داخل المضمون الاقتصادي لتأخذ المستجدات في الحسبان".
هذا الكلام ـ والله ـ ما يساوي أنْ يُردّ عليه، ولا أنْ يذكر على المنبر، لكنني أقول: إنّ مصيبتنا أهلَ السودان أنّنا خُدِعنا في كثير من الناس ممّن لبسوا مسوحَ العلم وتزيّوا بزيِّ أهله، ثم بعد ذلك هم خواءٌ منه، ولا أدلّ على هذا المعنى من هذا الكلام.
أما كون المرأة الآن بدأت تشارك في الإنفاق، نسبة الطلاق وما أشبه ذلك، هذا كلامٌ غير صحيح، ليس هناك مستجدات.
منذ عهد رسول الله كانت المرأة تشارك في الأعمال التي تناسب طبيعتها، وأذكر لكم بعض النماذج:
في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: طُلِّقت خالتي فخرجت تجُدُّ نخلها ـ خرجت في فترة العدة ـ أي: تقطع ثمار نخلها بعدما نضجت، فزجرها رجل من أهلها فقال لها: أنت في العدة، ارجعي لا تشتغلي، فذهبت إلى رسول الله وسألته، فقال عليه الصلاة والسلام: ((بلى جُدِّي نخلك، لعلك تطعمين أو تتصدقين))، المرأة كانت تعمل.
مثال آخر: المرأة كانت تشارك في أعمال الجيش المناسبة لطبيعتها، عن الرُبيِّع بنت معوّذ رضي الله عنها قالت: كنا نغزو مع رسول الله فنسقي القوم ونردّ القتلى والجرحى إلى المدينة، وعن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: غزوت مع رسول الله سبع غزواتٍ، أخلُفهم في رحالهم، أصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأرد القتلى، وعن أمّنا عائشة رضي الله عنها قالت: لما أصيب سعدٌ رضي الله عنه يوم الخندق أمر به رسول الله فجُعل في خيمةٍ في المسجد ليعوده من قريب. قال الحافظ ابن حجر: "قال ابن إسحاق: وكانت هذه الخيمة لرفيدة امرأة من الأنصار تداوي الجرحى، فجعل رسول الله سعدًا في خيمتها لتداويه وليعوده من قريب".
ما الجديد؟! المرأة على عهد رسول الله تُطلَّق، كانت تعمل في جَدِّ النخل، كانت تعمل في الزراعة، كانت تعمل في نقل الثمار، تقول أسماء بنت أبي بكر: تزوجت الزبير بن العوام وهو لا يملك من الدنيا شيئًا، فكنت أسقي أرضه، وأعلف ناضحه، وأنقل النوى على رأسي.
لو احتاجت إلى العمل كانت تعمل، ما الجديد من أجل أن يقال اليوم بأنّ هذا التشريع كان لظرفٍ معين، لحالةٍ معينة؟! ثم بعد ذلك طرأت مستجدات وتغيرت ظروفٌ وأحوال، فلا بد أنْ نجعل للمرأة نصيبًا يساوي نصيب الذكر، كما هو فحوى هذا الكلام وإنْ لم يصرح به!
نقول: أيها الإخوة الكرام، ربنا الرحمن عادل لا يظلم، وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف49]، جعل للذكر ضعف حظ الأنثى، وجعل للأنثى نصف حظ الذكر، لأنه يراعي طبيعة كلٍ ومسؤولية كلٍ، فلو فرضنا أنّ رجلاً مات وترك ابنًا وبنتًا ذكرًا وأنثى، وترك مائةً وخمسين ألف دينار، فقسمة القرآن تقضي بأن يكون للذكر مائة ألفٍ وللأنثى خمسون ألفًا، ثم بعد ذلك أراد الولد وأخته أنْ يتزوّجا، فلو افترضنا أنّ هذا الولد سيتزوج، فسينفق في المهر والعُرس وغير ذلك ما يعادل خمسة وعشرين ألفا من المائة ألف التي ورثها، بقي له خمسة وسبعون ألف دينار، وبالمقابل أخته التي ورثت خمسين ألفًا سيأتي آخر ليتزوجها، سينفق في المهر مثلاً وفي نفقة العرس ما يعادل خمسة وعشرين ألفًا، فكأنّ الذكر والأنثى لكلّ منهما خمسة وسبعون ألفًا، والله عز وجل هو الذي خلق الذكر والأنثى، وهو الذي يعلم ما يصلح الذكر والأنثى، فما بالنا نُعدّل على الله أحكامه؟! ما بالنا نفتري على الله الكذب متظاهرين بأننا علماء؟!
ثم في ثنايا كلامه عن الميراث ذكر مسألة تدلّ على أنه لا يعرف الشيء الذي يتكلّم عنه، يقول: "ويدلّ على ذلك أنّ الأمّ قد ترث أكثر من نصيب الأب أحيانًا، كما لو هلك هالك ولم يترك ذكرًا ولا أنثى أي: لم يترك فرعًا وارثًا"، نقول: هذا جهل وما قال به أحد، فإنّ الأم والأب لا يخلوان من ثلاثة أحوال:
إما أنْ يموت ولدهما وقد ترك فرعًا وارثًا، ففي هذه الحالة لكل واحد منهما السدس، للأب سدس وللأم سدس.
الحالة الثانية: أنْ يموت الميت ولم يترك فرعًا وارثًا، لكنه ترك جمعًا من الإخوة، فها هنا أيضًا للأم السدس وللأب الباقي.
الحالة الثالثة: أنْ يموت الميت ولم ترك فرعًا وارثًا ولا جمعًا من الإخوة، ففي هذه الحالة للأم الثلث وللأب الثلثان.
هذه أحوالٌ ثلاثة لا يخلو منها الأب والأم، لكن هكذا حين يتكلم الإنسان فيما لا يعلم ويهرف بما لا يعرف فإنه يأتي بمثل هذه العجائب.
واجبٌ عليكم ـ أيها المسلمون عباد الله ـ أنْ تحرّروا ولاءكم لله، لا تنتبهوا إلى أنّ هذا الكلام مَنْ قاله فلانٌ أو فلانٌ، فليقله مَنْ قاله، هو باطل يردّ على مَنْ قاله، مَنْ نطق بالباطل يرد عليه باطله كائنًا مَنْ كان، ومَن نطق بالحق ندعو له ونثني عليه ونتبعه في الحق الذي قاله، هكذا ينبغي أنْ يكون المسلم، أما الذي يتعلق بالزعامات وينتبه إلى الأسَر ويصغي إلى فلان أو فلان فمثل هذا تضيع دينه ودنياه.
نسأل الله أن يردنا إلى دينه ردًا جميلاً، وأنْ يبصرنا بالحق أينما كان، وأنْ يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتّباعه، وأنْ يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأنْ يهدي كل ضال، وأنْ يرشد كل حائر، وأنْ يرد كل غافل، والحمد لله رب العالمين.
|