أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه فيما أمر، وانتهوا عما نهى عنه وزجر، واعلموا أنكم في دار ممر لا دار مقر، وأنه لا علم لأحد منا بمصيره إلى الجنة أم إلا سقر، التي لا تبقي ولا تذر، فلا بد إذًا لمن يريد النجاة أن يتّخذ أسبابها الموصلة إليها، وإن أعظم أسباب النجاة تقوى الله تعالى، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
وإن هذه الوصية لا يمكن تنفيذها إلا بالعلم بما يتَّقى ويتجنَّب، والعلم بما يطلَب ويقرّب ويحِّب، فعلينا جميعًا أن نقبِل على طلب العلم وتحصيله والتقرّب إلى الله بذلك، ثم علينا أن ننشر ما تعلمناه، وأيّ عذر لنا بين يدي الله تعالى إذا لم نسع في هذا الطريق؟! ألم يمتنّ الله علينا في كتابه بما ركّب فينا من أسباب تحصيل العلم وأدواته: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]؟! ألم يخبرنا أنه سائلنا عن استعمال هذه الأدوات: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
عباد الله، إنه لم يؤمَر الجاهل بالتعلّم إلا بعدما أخذ الميثاق على العالم أن يعلّم ويبيّن ولا يكتم، وأنه يكفيكم من شرف العلم أنه يدّعيه من ليس من أهلِه ويفرح بنسبته إليه من ليس من طلاّبه، ويكفيكم أيضًا من شرفه أن التقوَى لا تنال إلا به، فكيف تتَّقي من لا تعلم، وترغب فيما عند من لا تعلم؟! ولكن إذا أخذتَ في طريق التعليم سهّل الله لك به طريقًا إلى التقوى، ((ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله به طريقًا إلى الجنة))، وهل للجنة طريق غير العلم والتقوى؟! وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة:282]، شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18]، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
بالعلم تنال التقوى، وبالتقوى يعلّمك الله ثم يجعلك شهيدًا؛ إذ بدأ في الآية الكريم بنفسه، وثنى بملائكته، وثلّث بأولى العلم، وناهيك بذلك فضلاً وشرفًا، ثم تكون من الذين يعلمون قدر الآيات التي جعلت في صدورهم ويعقِلون الأمثال والمواعظ، فيتعظون بها، فيخشون الله تعالى ولا يخشون أحدًا إلا الله، وعند ذلك يرفعهم الله درجات في الدنيا والآخرة، ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع آخرين))، وهل طلب أكمل الناس الزيادة إلا من العلم؟! وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].
عباد الله، إن فضل العلم لا يخفى على أحد منا، وإن النصوص في ثواب طلبه ونشره واتباعه كثيرة، فما المانع إذًا من أن نكون طلبة علم بكبيرنا وصغيرنا وموظفينا وعاطلنا ذكرِنا وأنثانا؟! إنه لا يمنعنا من ذلك إلا ما يزينه الشيطان لنا ويصدنا عن هذا الطريق الموصل للجنة، وإلا فإن جلَّ الصحابة تعلموا بالجلوس والاستماع، لا قلَمَ ولا محبرة، وإن جلّ التابعين تعلموا بالقلم والدواة والمحبرة، وقد حفظوا لنا ديننا وعلومنا الإسلامية، ونحن مطالبون بتعلّم علومنا وحيازة علوم غيرنا النافعة وكل ما تحتاجه أمتنا وما يمكّن لديننا ويعز أمتنا، وإنه لمن علامات التوفيق والرشاد وحسن السياسة والرعاية والسداد ما تسير عليه هذه الدولة من جعل العلم كالماء والهواء أمر مشاع بين الناس وحقّ متاح لكل الناس، فنشرت مدارسه ومراكزه في الداخل والخارج حتى أوصلته إلى عاصمة أمريكا، فهنيئًا لها هذه النظرة البعيدة والسياسة الرشيدة، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي : ((مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)).
وإن في تحصيل العلم ونشره جوائز كثيرة، منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
|