أما بعد: عباد الله، اتقوا الله.
بالأمس أقبل مُشرق الميـلاد شهرُ التُّقـاة وموسمُ العبـاد
واليوم شد إلى الرحيل متاعه قد زود الدنيـا بخير الـزاد
لا أوحش الرحمن منك منازلاً ذكراك يعلو في الربى والوادي
ما أشبه الليلة بالبارحة، كنا في جمعة ماضية نعيش أول يوم من رمضان، واليوم نعيش وداعه أو ما يسبق وداعه بيوم. مضى الشهر وودعناه وما استودعناه، ذهب شاهدًا لنا أو علينا، فليت شعري من المقبول منا فنهنيه، ومن المحروم فنعزيه.
يا من وُفّق للاجتهاد بالعمل الصالح في هذا الشهر، ها قد انقضى الشهر، فهل تذكر ألمَ الجوع والعطش من فقدِ الطعام؟! أم هل أجهدك القيام؟! لقد ذهب التعب والنصب وثبت الأجر إن شاء الله. قد كنت من أول الشهر تقوم لله وتصلي وتسجد وتقرأ وتذكر، وغيرك لم ينفك عن التعب، فقد قام لكن لهواه، واجتهد لكن في تحصيل دنياه، أضاع ليله ونهاره حتى ذهب عنه الشهر ولا أجر، بل هو الوزر وربِّي وبئس ما فعل، وزر في رمضان؟! ((كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه: فمعتقها أو موبقها)) رواه ابن ماجه والترمذي. ذهبت الدنيا بأتعابها، وبقيت تبعاتها.
ما ضاع من أيامنا هل يغرم؟ هيهات والأزمان كيف تقوَّم؟
يـوم بأرواح تباع وتشترَى وأخوه ليس يُسام فيه الدّرهم
أيها المسلمون، شرع الله لكم في ختام شهركم شرائع، فاعلموها لتعملوا بها ولا تضيّعوها، والأعمال بالخواتيم.
شرع للمسلم في ختام الشهر إخراج زكاة الفطر، وهي فرض واجب كما في حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم: أن رسول الله فرض زكاة الفطر. شرعت زكاة الفطر في ختام الشهر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وكم هو النقص في صيامنا الذي يحتاج إلى إتمام، والخلل الذي يحتاج إلى تسديد.
تجب زكاة الفطر على الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين. رواه البخاري. فمن أدركه غروب شمس ليلة العيد وهو حيٌّ مسلم وجبت عليه، ومن مات قبل الغروب أو ولد بعد الغروب لم تجب عنه. ويستحب إخراجها عن الجنين الذي في البطن.
وتخرج من عامة طعام البلد كالبر والتمر أو الأرز، لحديث ابن عباس رضي الله عنه: أمرنا رسول الله أن نؤدي زكاة رمضان صاعًا من طعام.
ومقدار زكاة الفطر صاعٌ عن كل واحدٍ، وهو ما يساوي كيلوين وأربعين غراما.
ولا تدفع إلا لمستحقيها، وهم المساكين دون بقية الأصناف الثمانية على الصحيح، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين. رواه أبو داود وابن ماجه. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يعطيها الذين يقبلونها. رواه البخاري.
ويجوز أن توزّع على عدة مساكين أو تعطى لمسكين واحد.
وجمهور أهل العلم على أنها لا تعطى إلا المسلم، لحديث ابن عمر السابق، قال شيخ الإسلام: "لا ينبغي أن تعطى الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج من المؤمنين، فمن لم يصلّ من أهل الحاجات لا يُعطى شيئًا، حتى يتوب ويلتزم أداء الصلاة" إلخ.
ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وأفضل وقت إخراجها قبل الخروج لصلاة العيد، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، فإن أخرت عنها فإنما هي صدقة من الصدقات.
وجمهور العلماء على أنه لا يعتبر في زكاة الفطر ملك النِّصاب، بل تجب على كل من ملك صاعًا فاضلاً عن قوته يوم العيد وليلته.
ولا يجوز دفع القيمة بدل الطعام لأنه خلاف المنصوص عليه، قال أبو داود: سئل أحمد وأنا أسمع: يعطى دراهم؟ قال: "أخاف أن لا يجزئه؛ خلافُ سنة رسول الله ".
ولا يجوز إخراج الرديء في الزكاة، فالله طيب لا يقبل إلا طيبًا، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَـٰتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، فأخرجوها طيبة بها نفوسكم، وزكوا بها صيامكم، واجبروا النقص، وسدّدوا الخلل.
أيها المسلمون، ومما شرع في ختام الشهر صلاة العيد والاستعداد لها، فإليك بعض أحكامها:
يحرم صيامُ يومي العيدين لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر. رواه مسلم. وعيد الفطر يوم واحد فقط، ولذا يجوز ابتداء صيام الستّ من شوال أو القضاء من اليوم الثاني لشهر شوال.
ويستحب الخروج لصلاة العيد للرجال والنساء، بل ذهب بعض أهل العلم كشيخ الإسلام وغيره إلى وجوب الخروج لصلاة العيد، لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيَّض وذوات الخدور، فأما الحيَّض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين.
ويستحب التجمّل للعيد ولبس أحسن الثياب والطيب، فقد كان الصحابة يفعلون ذلك ويقرّهم النبي عليه. أما النساء فيبتعدن عن الزينة إذا خرجن، لأنهن منهيات عن إظهار الزينة للرجال الأجانب، ويحرم على من أرادت الخروج أن تمسّ طيبًا أو تتعرّض للرجال بفتنة.
ويستحبّ الاغتسال قبل الخروج لصلاة العيد، فقد صحّ في الموطأ وغيره أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى، وصحّ ذلك أيضًا عن علي رضي الله عنه، قال النووي رحمه الله: "اتفق العلماء على استحباب الاغتسال لصلاة العيد".
ويستحب أن لا يخرج في عيد الفطر للصلاة حتى يأكل تمرات، لما روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات. وإنما استحب الأكل قبل الخروج مبالغة في النهي عن صوم ذلك اليوم وتحقيق الفطر فيه.
ويستحب إتيان المصلى ماشيًا إن تيسر ذلك، فقد أخرج الترمذي وصححه الألباني من قول علي: (من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيًا).
ويسن التكبير ليلة العيد ويومه إلى أن يدخل الإمام لصلاة العيد، يرفع الرجال أصواتهم بذلك، وتخفض النساء إذا كانت بحضرة أجانب، ويكون ذلك في البيت والمسجد والسوق والعمل، وكل مكان يمكن ذكر الله فيه، وهي سنة من السنن المهجورة، تطلُب من يحييها.
وصفة التكبير أن يقول: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد"، "الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا"، "الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر وأجل، الله أكبر على ما هدانا"، وكلّها ألفاظ صحيحة ثابتة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
|