أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وعظموا أمره، واجتنبوا زواجره.
أيها المسلمون، يقول الله عز وجل: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ [البقرة:200-202].
لكل أمة من الأمم ما تفاخر به في مفاهيم ضيقة، وأهداف محددة، وهمم قاصرة فلا رسالة كبرى ولا غايات عليا، لم يكن لهم رسالة في الأرض ولا ذكر في السماء.
وأمة العرب كانت من هذا القبيل، يجتمعون بعد حجهم في أسواقهم ومنتدياتهم؛ ليفاخروا بآبائهم، ويتعاظموا بأنسابهم.
جاء الإسلام فرفع الهمم، وأنار الفكر، وأنشأهم إنشاءً جديداً. سلك بأتباعه مسلك عز لا يطاول، وقادهم إلى مجد لا يضاهى، جاءهم الكتاب، وتنزل عليهم الوحي؛ فكان لهم الذكر والخلود: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَـٰباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْـئَلُونَ [الزخرف:44]. في هذا الذكر، وهذا الكتاب أعطاهم الميزان: يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]. فميزان الرفعة والتكريم، ومقياس المفاخرة والذكر، التقوى والصلة بالله، والتلبس بذكره وشكره، والعمل الصالح.
إذا كان الأمر كذلك، فمن أحق بالذكر والشكر من أهل الإسلام، الذين أتم الله عليهم نعمته وأكمل لهم دينه، وجعله مهيمناً على الدين كله؟! فَٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
وحقنا ـ نحن أهل الإسلام ـ أن نقف مع مفهوم الذكر، لنتبين معناه؛ لعلنا أن نقوم بحقه فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ [البقرة:200].
الذكر هنا ـ أيها الأحبة ـ ذو دائرة واسعة، لا تُحدُّ مجالاتها، في ميادين عريضة من القول والعمل، والفكر والاعتقاد. الذكر ليس ساعة مناجاة محدودة في الصباح أو المساء، في المسجد أو في المحراب، لينطلق العبد بعدها في أرجاء الأرض يعبث كما يشاء ويفعل ما يريد. الذاكر الحي والمتدين الحق يرقب ربه في كل حال، وحيثما كان، وينضبط مسلكه ونشاطه بأوامر ربه ونواهيه، يشعر بضعفه البشري، فيستعين بربه في كل ما يعتريه أو يهمه.
وفي هذا يقول سعيد بن جبير ـ رحمه الله ـ: كل عامل لله بطاعة فهو ذاكر لله تعالى.
ويقول عطاء: مجالس الذكر: الصلاة والصيام والحج، ومجالس الحلال والحرام: البيع والشراء، والنكاح والطلاق.
المسلم الذاكر يصحو وينام، ويقوم ويقعد، ويغدو ويروح، وفي أعماقه إحساس بأن دقات قلبه، وتقلبات بصره وحركات جوارحه كلها في قبضة الله وتحت قدرته، في أعماقه إحساس وإيمان بأن إدبار الليل وإقبال النهار، وتنفس الصبح وغسق الليل، وحركات الأكوان، وجريان الأفلاك .. كل ذلك بقدرة الله وأقداره ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:191].
لا يهنأ بالعيش، ولا يتذوق السعادة إلا امرؤ أحب الله، وأحب في الله، وأحب لله، واطمأن بذكره، وهش لمصالح خلقه، وتألم لآلامهم، وأعان على تحقيق آمالهم، لسانه الذاكر يقول: ((اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر))[1].
أيها الإخوة المسلمون، ملائكة الرحمن يسبحون الله لا يفترون، ولكن البشر يأكلون وينامون، ويعملون ويفترون، غير أنهم يضاهئون الملائكة. حين يقومون إلى عباداتهم ومعاشهم.. حين يزرعون ويحصدون ويكافحون ويكدحون، باسم الله ومن الله وإلى الله. أوقات البشر التي يصرفونها تعادل أوقات الملائكة في التسبيح والتحميد والتمجيد، إذا هم آمنوا بربهم، وساروا على نهجه، ولحظوا قدرته، وتفكروا في آلائه، واعترفوا بفضله في الإطعام، والكساء، والصحة، والإيواء، والأمن، والأمان.
الذاكرون المخبتون يعيشون لربهم مصلين، حامدين، مجاهدين، عاملين.
قطعوا إغراءات العاجلة، وجواذب الإخلاد إلى الأرض، وساروا في الطريق إلى مراضي الله، يبتغون وجهه، ويذكرون اسم الله في جميع أحيانهم وشؤونهم قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
ويرقى الحال بهم إلى أن يباهي بهم ربهم ملائكته، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث معاوية رضي الله عنه قال: إن رسول الله خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟)) قالوا: ما أجلسنا إلا ذاك. قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنَّه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عزَّ وجلَّ يباهي بكم الملائكة))[2].
وقد علمتم ـ أيها الإخوة ـ بمباهاة الله ملائكته بالحجاج في موقف عرفة، وما ذلك إلا لما يعيشه أهل الموقف من ذكر، ودعاء، وتعبد، وحسن توجه لله رب العالمين.
المسلم الذاكر صاحب قلب سليم مستسلم لله، وهو في جانب آخر صاحب كدح شريف، قدماه مغبرتان، ويداه كالَّتان في ميدان العمل من غير جزع أو هوان، ومن غير ذلة ولا استكبار مبتهل إلى ربه: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات))[3]، وفي رواية للبخاري: ((وضَلَع الدين وقهر الرجال)) واللفظ لمسلم من حديث أنس[4].
أيها الإخوة، وهذه إلمامة تطبيقية لمسيرة يوم مع المسلم الذاكر لربه، المستمسك بالصحيح المأثور عن نبيه محمد .
اليوم الإسلامي يبدأ مع بزوغ الفجر أو قبيل ذلك، ليمتد النهار سبحاً طويلاً، متقلباً في الغدو والآصال، والعشي والإبكار، يستيقظ المسلم مع طلائع الصبح المتنفس مستفتحاً بهذا الذكر ((الحمد لله الذي عافاني في جسدي، وردَّ علي روحي، وأذن لي بذكره))[5]، من حديث أبي هريرة. ((أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين))[6].
وفي أثناء ذلك ـ أيها الإخوة ـ يخترق حجاب الصمت، ويشقه صوت جهير جميل واضح الكلمات، ظاهر المعاني والمقاصد إنه صوت المؤذن ينادي بالتوحيد والفلاح في كلمات كلها ذكر ينادي بها بصوته الندي، ويرددها المسلمون من بعده.
اليوم الإسلامي يبدأ بخطوات السكينة والوقار إلى المسجد مع غبش الصبح؛ ليقف المسلم متبتلاً خاشعاً بين يدي ربه خلال اليوم خمس مرات وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِى [طه:14]. وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
هذا المسلم الخاشع يقول عند خروجه إلى الصلاة: ((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وعظِّم لي نوراً)) واللفظ لمسلم[7].
وإذا ازدلفت قدماه إلى المسجد لهج بذكر آخر، فقد قال رسول الله : ((إذا دخل أحدكم المسجد؛ فليسلم على النبي ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك))[8]، وعن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي أنه كان إذا دخل المسجد قال: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)). قال: أَقَطّ؟ُ[9] قلت: نعم. قال: ((فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حُفظ مني سائر اليوم))[10].
أخي المسلم، إذا تأملت كل ذلك أدركت السر في الاقتران بين تضييع الصلوات واتباع الشهوات.
أيها المسلمون، هذا اليوم الإسلامي يتخلله في سبحه الطويل أذكار للطعام والشراب، والسفر والإياب، والنوم والاستيقاظ، والمتاعب والمصاعب، والصحة والسقم، أذكار للدنيا وهمومها، والديون ومغارمها، في طلب المعاش، ومقاربة الأهل، وصلاح الذرية أذكار وتسبيحات ودعوات وابتهالات، مقرونة بتعاطي الأسباب، والكدح المشروع في هذه الدنيا؛ ليقوم المسلم بمهمة الاستخلاف على وجهها، إيمان وعمل، وعقيدة ومنهج، وانطلاق خاشع رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ [البقرة:201].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَـئَابٍ [الرعد:28،29].
[1] إسناده ضعيف، أخرجه أبو داود: كتاب الأدب – باب ما يقول إذا أصبح، حديث (5073)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة – باب ثواب من قال حين يصبح وحين يمسي... حديث (9835)، وابن حبان: كتاب الرقائق -– باب الأذكار - ذكر الشيء الذي إذا قال المرء عند الصباح... حديث (861). وفي إسناده: عبد الله بن عنبسة لم يوثقه سوى ابن حبان (الثقات 5/53)، وقال فيه الذهبي: لا يكاد يُعرف. ميزان الاعتدال (2/469).
[2] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء ... جاب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن ... حديث (2701).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب ما يتعوذ من الجبن، حديث (2823)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء... باب التعوذ من العجز... حديث (2706).
[4] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب من غزا بصبي للخدمة، حديث (2893)، ولفظه: ((... وغلبة الرجال)).
[5] حسن، أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات – باب حدثنا ابن أبي عمر... حديث (3401)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة – باب ما يقول إذا انتبه من منامه، حديث (10702)، وفي عمل اليوم والليلة (1/496). وحسنه أيضاً السيوطي في الجامع الصغير (437) والألباني في صحيح سنن الترمذي (2707) والكلم الطيب (34).
[6] صحيح، أخرجه أحمد (3/406)، والدارمي: كتاب الاستئذان- باب ما يقول إذا أصبح، حديث (2688)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة – باب ذكر ما كان النبي يقول إذا أصبح، حديث (9829). قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح (10/116). وصححه الألباني في تعليقه على العقيدة الطحاوية (ص97)، حاشية (32).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، حديث (763).
[8] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب ما يقول إذا دخل المسجد، حديث (713) دون ذكر التسليم على النبي ، وأخرجه تاماً أبو داود: كتاب الصلاة – باب فيما يقول الرجل عند دخوله المسجد، حديث (465)، وابن ماجه: كتاب المساجد والجماعات – باب الدعاء عند دخول المسجد، حديث (772).
[9] أقطّ: الهمزة للاستفهام... أي انتهى الحديث الذي بلغك عني (قلت: نعم) هذا الذي بلغني عنك . انظر بذل المجهود في حل أبي داود (3/308).
[10] حسن، أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة – باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد، حديث (466)، ورمز له السيوطي بالحسن، الجامع الصغير (6669)، ووافقه المناوي فيض القدير (5/129)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (441). |