أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ ربَّنا جل وعلا حذَّرنا من أن ننخدعَ بهذه الدنيا أن نغترَّ بها وننخدِعَ بنعيمها وملذَّاتها، حذَّرنا من ذلك لأنها متاعُ الغرور، متاعٌ زائل ولا بدّ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5]. وأخبرنا تعالى عن حالِ الدنيا فقال: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ [الحديد:20]، هذا حالُ النّاسِ في هذه الدّنيا، هي لَعِب ولهوٌ وزِينة وتكاثُر بالأموالِ والأولاد، هذا حالُ المنخدِعين بها الذين غرّتهم هذه الحياةُ حتى أنسَتهم ذكرَ الله وصدَّتهم عمّا لأجله خلِقوا.
أيّها المسلم، هذه الحياة الدنيا أخبرَ الله بقوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، فهي دنيا لاَ تدوم لك على حالٍ، ما بَينَ فقرٍ وغنى، وما بين عافيةٍ وبلاء، وما بَين مرضٍ وصحّة، وما بين عِزٍّ وذلّ، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، لكنَّ المؤمنَ حقًّا يتبصَّر فيها، ويعلم ما لأجلِهِ خلِق، ويهتمّ بما أوجب الله عليه عِلمًا وعمَلاً، ويتذكَّر قولَه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فيحقِّق العبوديةَ لله، ويعمُر هذه الدنيا بطاعةِ الله، ويستعين بما ناله فيها من خيرٍ على ما يقرِّبه إلى الله، ويعلَم أنَّ الدنيا دارُ عمل وأنَّ الآخرة دار الجزاء، فهو يتزوَّد من حياته لآخرته، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
أيّها المسلم، تمرّ بك في هذه الدّنيا مِحنٌ ورزايا ومصائبُ وبلايا وهمومٌ وأحزان، ولا يخلِّصك من تلكم الأهوالِ العظيمة إلاّ لجوءٌ إلى الله والأخذ بالأسباب التي شرعَها الله لتخلُّص من تلك البلايا والرزايا، فالمؤمِن يتلقَّى ذلك البلاءَ بالصَّبر والثباتِ، لا يستكينُ أمام الأحداثِ، ولا يضعُف أمام الملِمَّات، إنما يتلقَّاها بحزمِ الأقوياء وعزيمةِ الأصفياء، الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
أيّها المسلم، لو فكّرتَ في المجتمَع لرأيتَ العجَبَ العُجاب، ولرأيتَ من أنواع البلايا ما الله به عليم، هذا يشكو من عقوقِ أبنائِه به، وذا يشكو مِن سوءِ عِشرة امرأتِه، وتلك امرأةٌ تشكو سوءَ أخلاق زوجها، وذاك أخٌ يشكو مِن قطيعة رحمه، وذاك يشكو من كَساد تجارته، وذا يشكو من آلامٍ نزلت به أعياه عِلاجها ودواؤها، وكلٌّ يشكو وكلّ يئنّ، لكنَّ المؤمنَ حقًّا هو الذي يثبُت أمام هذه البلايا كلِّها، إن أقبلت عليه الدنيا تلقَّاها بشكرِ الله والثناءِ عليه وعلِم أنها ابتلاءٌ وامتِحان كما قال نبيُّ الله سليمان: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]، فيتلقّاها بشكرِ الله والثناءِ على الله، ويستعمِل ما رزَقَه الله في طاعته، ويسخِّرها فيما يقرِّبه إلى الله، فلا يغترّ بها، ولا ينخدِع بها، ولا يحمله ما حصَل له من الدّنيا [على] أشرٍ أو بطرٍ أو تكبُّر على عبادِ الله أو إعجابٍ بنفسه، كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6، 7]. وإن أدبَرَت كان صابرًا محتسبًا ثابِتًا على الحقّ مستقيمًا عليه، ((عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمرَه كلَّه لعجب، إن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن)).
أيّها المسلم، إنَّ المصائبَ والبلايا لا يرفعها إلا الالتجاءُ إلى الله والاضطرار إليه مع الأخذِ بالأسباب التي أذِن الله فيها وشرَعها، اسمَع الله يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، فربُّك الذي يكشِف البلاءَ، وربّك الذي يرفع البلاءَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17].
تدبَّر كتابَ الله لترى العَجَب العُجاب، ترَى كرامةَ الله للمتَّقين، وترى تفريجَ الله للمَهمومين وتيسيرَه للمعسِرين، اقرأ كتابَ الله لترَى كيف أنجَى الله رسلَه وأنبياءَه مِن كيدِ مَن أرادهم بسوء، فانظر إلى نوحٍ وقد مكَث في قومِه ألفَ سنة إلا خمسين عامًا، والله يقول: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40]، فأنجاه وأغرقَ قومَه، وانظر إلى إبراهيمَ وقد ابتُلِي بأن يلقَى في النار قال الله: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، ورأى في المنامِ أن يذبحَ ابنَه إسماعيلَ، فصبر ثمّ جاء الفرجُ من الله وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، وكاد فرعونُ لموسى ما كاد، حتى أنجى الله موسَى وأغرق فرعونَ وهم ينظرونَ إلى نجاةِ موسى ويرَونَ ما حلَّ بهم من المصائبِ العظيمة.
وسيِّد الأوَّلين والآخرين وإمام المتَّقين محمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، كم عانى من الشدائدِ، وكم عانى من البلاء وتحدِّيات الكفارِ له ولأتباعه، ومع هذا كان صابرًا ثابت الجأشِ والله يقول له: وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120]. تآمَروا على قتلِه، ودبَّروا مكيدتهم، فأخذَ الله أبصارَهم عنه وخرَج يلقِي الترابَ على رؤوسهم ويتلو: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9]، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]. يختفِي في غارِ [ثور]، ويقرب الطلبُ منه، فيُحال بينهم وبينَه حتى يصِلَ إلى المدينة سالمًا معافى، وكم كادوا له يومَ الأحزاب، ففرَّج الله ذلك، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب:9]. جاءَه أصحابُه يشكون إليه ما يلقَونَ من كيدِ الكافرين، قال [خباب بن الأرتّ]: أتَينا رسولَ الله وهو مُضجِعٌ بظلالِ الكعبة على بردٍ له فقلنا: ألا تستغفِر لنا؟! ألا تسأل لنا؟! فقال: ((إنّ من قبلكم يؤتَى بالرّجل فيحفَر حفرة له، فيوضَع فيها ويوضَع المنشار على رأسه فيشقّ نصفين، ويؤتَى بأمشاطِ الحديد ما بين جِلده وعظمِه، ما يصدُّه ذلك عن دينِه، وليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يَسير الراكِبُ من صنعاءَ إلى حضرموت لا يخشى إلاّ الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم قومٌ يستعجلون)). يستأذِنه ملكُ الجبال أن يطبِقَ عليهم أخشبَي مكّة فيقول: ((أتأنَّى بهم لعلَّ اللهَ أن يخرِجَ مِن أصلابهم من يعبدُه لا يشرِك به شيئًا)).
أيّها المسلم، قد تعاني مِن همومٍ في هذه الدنيا، من ديونٍ أعياك قضاؤها ومصائبَ أعياك التخلّصُ منها، فاعلَم أنه لا ملجأَ لك من الله إلاّ إليه، انطرِح بين يديِ ربِّك، واسأله من فضله وكرمِه، فإنّه يقول ذلك وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ويقول: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
إذًا أيّها المسلم، فلا ملاذَ مِن الله إلاّ إليه، ولا ملجأَ من الله إلا إليهِ، هو الذي يبتلِي عباده، وهو الذي يرفَع البلاء، والمؤمِن أمام البلاء صابر، وهو يأخذ بأسبابِ السَّلامة ما استطاع، اسمعِ الله يقول: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:83، 84]، ويقول في دعاءِ ذي النّون أنه لما قال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] يقول : ((ما دَعَا بها مكروبٌ إلاّ فرَّجَ الله عنه)).
أيّها المسلم، فالجَأ إلى الله، وألِحَّ عليه في الدّعاء، واسأله تفريجَ همِّك وقضاءَ دينِك وإصلاحَ عاقِبَتك، واسأله خيرَي الدنيا والآخرة. الأسبابُ مأمورٌ بها، وفَوق الأسباب تعلُّقُ القلب بالله رجاءً من فضله، أحسِن الظنَّ بربّك، وكن على ثِقةٍ بوعدِه الصادق، وعظِّم الرجاءَ في الله، فالله أكرَمُ الأكرمين وأرحَم الراحمين. أكثِر منَ الاستغفار، فمن لازَمَ الاستغفار جعل الله له من كلِّ همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ورزَقه من حيث لا يحتسب، فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61]. أكثِر من الدعاءِ، وفي الحديثِ: ((دُعاء الكرب: لا إلهَ إلاّ الله العظيم الحلِيم، لا إلهَ إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ العرش الكريم، لا إلهَ إلا الله الحليم الكريم)). فأكثر ـ يا أخي ـ من الدعاء، واسأل الله من فضله وكرمِه.
إنَّ الهمَّ والحزن بمجرّده لا يردّ مكروهًا ولا يرفَع واقعًا، وإنما المسلم أمامَ البلاء صَبر واحتساب وقَلبٌ ثابت وتعلّقٌ بالله في الأمور كلِّها، فعسى فرجٌ من الله، والله جل وعلا أكرم الأكرمين، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [العصر:5، 6].
كلّما ألمَّت بك الملمَّات ونزلت بك المكارِه والمضائق فالجأ إلى الله، وادعُه آناءَ الليل وأطراف النهار، ففي الليلِ ساعةٌ لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله من خيرَي الدنيا والآخرة إلاّ أعطاه. يومُ الجمعةِ في مثل هذا الوقتِ مِن صعود الإمام إلى انقضاءِ الصلاة وآخِر ساعةٍ مِن يوم الجمعة وعند سماع المؤذِّن وعند القيامِ للصّلاة وما بين الأذانِ والإقامة أوقاتٌ لإجابةِ الدّعاء. فدعاء الله مع الأخذِ بالأسباب النافعة نجاةٌ للعبد، لا تعتمِد على حَولِك وقوَّتك، ولكن اعتمِد على ربِّك مع بذلِ السبب النافع الذي يجعَله الله سببًا لتفريج هذه الهمومِ وإزالةِ هذه الكروب، أسأل الله أن يجعلَنا وإياكم ممن تعلَّق بالله قلبُه، فقوِي رجاؤه في ربِّه، وعظُمَت ثِقته بربه، واعلم ـ أخي ـ أنّك إذا قوَّيتَ الرجاء فالله جل وعلا عندَ حسنِ ظنِّ عبده به، أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسداد.
باركَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيمِ، ونَفَعني وإيَّاكم بما فِيهِ منَ الآياتِ والذّكر الحكِيم، أقول قَولي هذَا، وأستغفِر اللهَ العَظيمَ الجلِيلَ لي ولَكم ولِسائرِ المسلمِين مِن كلِّ ذنب، فاستَغفِروه وتوبوا إِليهِ، إنّه هوَ الغَفور والرحيم.
|