أما بعد: فقد تكلمنا فيما مضى من خطب عن مجموعة من الكبائر والمعاصي، وبينا خطرها على دنيا المسلم وآخرته، فلا بد أن نتكلم عن الطاعات كما تكلمنا عن المعاصي، وقد قدمنا الكلام عن المعاصي قبل الطاعات لأن التخلية ـ كما يقولون ـ تكون قبل التحلية، أي: أن التخلي عن الأمور السيئة يكون قبل التحلي بالأمور الطيبة، وارتداء الثياب النظيفة يكون بعد نزع الثياب المتسخة وغسل الجسم وتطهيره، لهذا تكلمنا عن المعاصي في البداية وبينا ضررها لكي نتخلى عنها ونطهر أنفسنا ونزكيها حتى تتحلى بالطاعات أفضل تحلي، سأل رجل ابن الجوزي: أيهما أفضل: أسبِّح أم أستغفر؟ قال: "الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون منه إلى البخور".
لا بد لنا قبل أن ننطلق إلى ساحة الطاعات أن نفارق المعاصي وأن نقف في محطة الإنابة والاستغفار والندم على ما اقترفت أيدينا حتى يكون اتجاهنا إلى الطاعات نافعا، لا بد أن نقف في برزخ الندم والبكاء كي نتهيأ فعلا لتكاليف الطاعة، وكي نحمل هذا الدين حملا صادقا.
نتكلم اليوم عن أثر المعاصي وضرورة مفارقتها، ثم نتكلم في الخطبة القادمة بإذن الله عن الاستغفار وما يتبعه، ثم ننطلق إلى رحاب الإيمان وطاعة الرحمن وفضائل الأعمال.
المعاصي ـ إخوة الإيمان ـ ساحة للذل والهوان والشؤم والخسران، ولا يمكن لعبد يرغب في عز الدنيا ونعيم الآخرة أن يقر له في هذه الساحة قرار أو أن يرضى بهذا الجوار، فلا بد من هجران المعاصي والاستسلام لمن بيده القلوب والنواصي.
لا بد من مفارقة المعاصي لأن في الإقامة على المعاصي موت القلوب؛ فإن آثار المعاصي تتراكم على القلب حتى تطبع عليه وتميته، يقول سبحانه: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100]، يقول الحسن كما في الدر المنثور: "الذنب على الذنب ثم الذنب على الذنب حتى يغمر القلب فيموت"، ويقول إبراهيم بن أدهم:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيـانها
لا بد من مفارقة المعاصي لأنها سبب لنزول عذاب الله على مرتكبيها وعلى الراضين بها والساكتين عنها، وهذه سنة الله في خلقه إذا كثرت فيهم الذنوب والمعاصي، يقول سبحانه: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، وفي الحديث عن عائشة قالت: قال رسول الله : ((يكون في آخر الأمة خسف ومسخ وقذف))، قالت: قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم إذا ظهر الخبث))، فلله بأس ـ أيها الناس ـ لا يُرد عن القوم المجرمين فاحذروا.
لا بد من مفارقة المعاصي لأن في المعاصي منع القطر من السماء ومنع البركة عن أهل الأرض، يقول سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَات ٍمِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، ويقول : ((ما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا)) أخرجه الطبراني عن ابن عمر، وقال مجاهد في قوله تعالى: وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ [البقرة:159] قال: "دواب الأرض تلعنهم وتقول: يمنع عنا القطر بخطاياهم".
لا بد من مفارقة المعاصي لأن في المعاصي ذل يصاحب العاصي في الدنيا والآخرة، وكيف يكون العاصي عزيزا وهو قد قطع صلته بالعزيز المعز وخالف أمر رسول الله، يقول فيما أخرجه أحمد من حديث ابن عمر: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري))، فالذل حتم محتوم على من عصى وأقام على الذنوب، قال سليمان التيمي: "إن الرجل ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلته".
والكثير منا ـ عباد الله ـ قد لا يرى هذا الذل على وجوه العصاة لسببين، أولا: لأننا تلبسنا مثلهم بالمعاصي فتشابهنا معهم فلم نلحظ هذا الذل، وثانيا: لأننا نقيس الذل بمقياس دنيوي، فننظر إلى مكاسب الإنسان الدنيوية على أنها عز ورفعة حتى ولو كان من العاصين، أما الذين يرون بنور الله ويسيرون على نهج رسول الله فإن المظاهر لا تخدعهم والمتع لا تستدرجهم، بل لهم بوصلة ثابتة يسيرون بها في الحياة نحو اتجاه واحد هو مرضاة الله والجنة، وعلى ضوئها يحكمون على الأشياء، يقول الحسن البصري رحمه الله وهو يرى العصاة وذوي الجاه يتبخترون فوق البغال والبراذين يقول: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
فالمعصية ذل في هذه الدنيا، وهي ذل في الآخرة أيضا عندما يرى العاصي نتاج عمله وقطوف زرعه، يقول سبحانه: وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ [الشورى:44، 45].
لا بد من مفارقة المعاصي لأن في المعاصي حرمان الرزق، فالرزق من الرزاق، وبقدر طاعة المسلم لمولاه بقدر ما يرزقه ويبارك له في رزقه ويقنعه به، وإلا فهو محروم من الرزق أو غير مبارك له فيه أو ليس قانعا بما رزقه الله، بل يعيش دائما ملهوفا منهوما، فالإيمان والطاعة أسباب تفتح باب الرزق، والمعاصي توصده، يقول سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]، ويقول سبحانه عن أهل سبأ: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ [سبأ:15-17].
هذه هي نتيجة المعاصي والعتو والتمرد على أوامر الله سبحانه، إذا كان المسلم يؤمن بأن الله هو الرزاق فلا بد أن يرضيه حتى ينال من رزقه الطيب المبارك، ولا بد أن يعلم أنه قد يتأخر عنه الرزق أو يضيع بسبب الذنوب، أخرج الإمام أحمد عن ثوبان رضي الله عنه قال: (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إن للسيئة سوادا في الوجه وظلمة في القبر ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق).
كل هذه ـ عباد الله ـ آثار للمعاصي وتبعات تبين لنا شؤم المعصية على صاحبها، وتحثنا وتحفزنا على الابتعاد عن المعاصي حتى لا تطالنا هذه العقوبات، كما أن إثبات صدق التوجه إلى الله سبحانه وصدق الرجوع والإنابة إليه يقتضي ترك المعصية، فلا يمكن للمقيم على المعصية أن يكون صادقا في التوجه إلى الله.
المبادرة والإسراع في الهرب من المعصية نجاة؛ لأن الإنسان لا يدري متى يأتيه داعي الله سبحانه ومتى يهجم عليه الموت ذلك الغائب المنتظر، فلا بد أن يبكر في ترك مضارب أهل المعاصي والرحيل إلى مضارب أهل الخير والصلاح، وإلا دهمه العدو وضيع نفسه، يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أبي موسى: ((مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق)).
فلنبادر ـ إخوة الإيمان ـ بترك ذل المعاصي وضنكها إلى عز الطاعات وراحتها، ولنشمر عن ساعد الجد لنيل مرضاة الله سبحانه، فلن يزيدنا الانغماس في المعاصي والإعراض عن طاعة الله وذكره إلا غما وضنكا، يقول سبحانه: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأجارني وإياكم من خزيه وعذابه الأليم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
|