وبعد: فهذه خطبة في معجزات النبي ، نذكر فيها من معجزاته قصة حنين الجذع وغيرها.
هذه القصة ـ أيها المؤمنون ـ قبل أن أغوص بكم في كتب الحديث المبارك هي عبارة عن شوق عظيم من قطعة خشب صمّاء، فارقها النبي فلم يتمالك هذا الجذع الفراق، وكان يخطب عليها الجمعة، وظل ينوح ويصيح حتى مسح عليه النبي بيده الشريفة فهدأ وسكن، وهذه المعجزة صحيحة ثابتة، رواها أصحاب الصحيح والسنن، وحدَّث بها من الصحابة بضعة عشر صحابيًا، وقال عياض: "والخبر به متواتر". وقد رواها البخاري في صحيحه وغيره كما ستسمعون إن شاء الله تعالى، وقال أبو عيسى الترمذي في رواية أنس: "حديث صحيح".
إن من معجزات نبيكم أنه كان يحنّ إليه الشجر والحجر والمدر، ومن ذلك حنين وشوق ذلك الغصن الذي كان يخطب عليه .
فقد أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال: كان جذع يقوم إليه النبي ، فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العِشَار ـ الناقة العُشَرَاء إذا حُمِل عليها حنّت وأصدرت صوتًا ـ، حتى نزل النبي فوضع يده عليه فسكت.
وأخرج البخاري عن جابر أن النبي كان يقوم إلى نخلة، فجعلوها له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، فنزل فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها.
وأخرج الدارمي من طريق عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان النبي يخطب إلى جذع، فاتخذ له منبر، فلما فارق الجذع وعمد إلى المنبر الذي صنع له جَزِعَ الجذع، فحن كما تحن الناقة، فرجع النبي فوضع يده عليه وقال: ((اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت، وإن شئت أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها وعيونها، فيحسن نبتك وتثمر، فيأكل أولياء الله من ثمرك))، فسُمِع النبي وهو يقول: ((نعم قد فعلت)) مرتين، فسُئل النبي فقال: ((اختار أن أغرسه في الجنة)).
وقال أُبي بن كعب كان النبي يخطب إلى جذع فصنع له منبر، فلما قام عليه حنّ الجذع، فقال له: ((اسكن، إن تشأ أغرسك في الجنة فيأكل منك الصالحون، وإن تشأ أن أعيدك رطبًا كما كنت))، فاختار الآخرة على الدنيا.
وقال أبو سعيد الخدري : كان رسول الله يخطب إلى جذع، فصنع له منبر، فلما قام عليه حنّ الجذع حنين الناقة إلى ولدها، فنزل إليه رسول الله فضمه إليه فسكن.
حن جذع النخيل حين نأى عنه حنينًـا كأنه عُشَـراء
لو قلاه ولم يصلـه بضـمّ أحرقته من وجده الصعداء
وفي البخاري عن ابن عمر أن النبي كان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحوّل إليه، فحنّ الجذع، فأتاه النبي فمسحه فسكن.
وفي رواية ابن عباس أن النبي احتضنه فسكن وقال: ((لو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة)).
وفي رواية أنس كان رسول الله يقوم إلى جذع، فلما اتخذ المنبر وقعد عليه خار الجذع كخوار الثور حتى ارتجّ المسجد بخواره، فنزل إليه رسول الله فالتزمه فسكت، فقال: ((والذي نفسي بيده، لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حزنًا على رسول الله )).
ولما رأى الناس هذه المعجزة لم يتمالكوا أنفسهم، وظلّوا يبكون من عظيم هذه الآية، فقد قال سهل بن سعد الساعدي : إن رسول الله كان يقوم إلى خشبة، فلما اتخذ المنبر حنّت الخشبة، فأقبل الناس عليها، فوقفوا إلى جنبها، فرقّوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم، فنزل رسول الله فأتاها فوضع يده عليها فسكنت.
أيها المؤمنون، هذا جذع نخلة فارقه رسول الله فحنّ إليه واشتاق وهو جماد ميت، فأين شوقنا وحبّنا لرسول الله ؟! وكان الحسن البصري رضي الله عنه إذا حدّث بهذا الحديث لا يتمالك نفسه ويبكي ويقول: "يا عباد الله، الخشبة تحنّ إلى رسول الله شوقًا إليه لمكانه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه".
ولقد جاء عن أبي بن كعب أن الخشبة من شدة الشوق انصدعت وتشققت، وقال الصحابي الجليل المطلب بن أبي وداعة: (لا تلوموه ـ أي: الجذع ـ؛ فإن رسول الله لم يفارق شيئًا إلا وجد عليه).
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: ما أعطى الله نبيًا ما أعطى محمدًا ، فقال له عمرو بن سواد: أعطي عيسى إحياء الموتى! فقال له الإمام الشافعي: أعطي محمد حنين الجذع، فهذا أكبر من ذاك.
يقول القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفا: "واعلم أن حرمة النبي بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته، وعند ذكره وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وعشيرته، وتعظيم أهل بيته وصحابته".
قال أبو إبراهيم التجيبي: "واجب على كل مؤمن متى ذكره أو ذُكِر عنده أن يخضع ويخشع، ويتوقّر ويسكن من حركته، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله به".
فمن تعظيم الصحابة وتوقيرهم وإجلالهم لرسول الله ما جاء في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: وما كان أحب إليَّ من رسول الله ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه.
وفي سنن الترمذي عن أنس أن رسول الله كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس، فيهم أبو بكر وعمر، فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمر، فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما، ويبتسمان إليه ويبتسم إليهما.
وفي صحيح البخاري عن عروة بن مسعود حين وجهته قريش عام القضية على رسول الله ، ورأى من تعظيم أصحابه له ما رأى، قال عروة: وإنه لا يتوضّأ إلا ابتدروا وضوءه، وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقًا ويتنخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا أمر بأمر ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له. فلما رجع عروة بن مسعود إلى قريش قال: يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكًا في قوم قط مثل محمد في أصحابه. وفي رواية: إن رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم محمدًا أصحابه، وقد رأيت قومًا لا يسلمونه أبدًا.
أيها المؤمنون، إن الغرض من ذكر المعجزات هو تثبيت الإيمان والتعريف بعظيم قدر المصطفى ، وأن نمتع أسماعنا بشيء من العلم الشريف الذي يغفل عنه الكثير من الجمهور، وأودّ أن أقول لكم: إن العبرة من الخطبة الأولى وهي تعظيم الشجر والحجر أمر رسول الله والخطبة الثانية وهي تعظيم الصحابة وشدة أدبهم مع رسول الله أن نسعى بكل وسعنا إلى احترام سنة رسول الله ، وأن نعمل بها، ولن تتحقق دعوى الحب إلا إذا سرنا على هديه وسنته، وإن قراءة شمائله وسيرته والإكثار من الصلاة عليه لموجب لذلك كله، إلى ترسيخ قدره وعظمته في القلوب.
قال أبى بن كعب : يا رسول الله، فأجعل صلاتي كلها لك، يا رسول الله، لا أزيد على الصلاة عليك، وأكثر منها، فأجعل حياتي كلها صلاة عليك؟ فقال له : ((إذًا تكفى همّك ويغفر ذنبك)). فيا أصحاب الهموم والمصائب والمعائب، ويا أصحاب الذنوب، أكثروا من الصلاة على سيدنا محمد طبّ القلوب.
|