كان النبي شديد التحرّي للوفاء بالوعد، فما عهد عنه أنه أخلف وعدًا أبرمه، ولا موعدًا فأنقضه، وبهذا الخلق العظيم كسب النبي صداقة قومه ومحبتهم، وكان ذلك قبل بعثته. إن النبي قد سُمي من قبل المشركين بأنه الصادق الأمين، ولم يكسب هذه التسمية عن طريق اللقب الصوري، أو السمة على ذات الشخص فحسب، إن الأمانة والصدق كانتا دمًا يجري في عروقه الشريفة، وبرزت حقيقته في ظاهر معاملته، حتى لقب بالصادق الأمين.
وجاء في سنن أبي داود أن عبد الله بن أبي الحمار بايع النبي بيعًا وبقيت له بقية، فوعده أن يأتيه بها في مكانه، قال: فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: ((يا فتى، لقد شققت عليَّ، أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك)). ففي هذا الحديث يعلمنا النبي قولاً وعملاً الوفاء بالوعد وعدم إخلاف الوعد، فتأدّب ـ أيها المؤمن ـ بأدب النبي ، ولا تخلف وعدًا أبرمته؛ تكن رجلاً محمديًا.
ومن أخلاق النبي أنه كان وفيًا لزوجته، بلغ حبه لها أنه كان يكرم كل من له صلة بها، وفاءً لحق زوجته وحسن عهد وردا لجميلها الذي قامت به له وللإسلام، حتى لا ينسى الأزواج العشرة الطيبة مع زوجاتهم في حياتهن وبعد مماتهن.
قال أنس: كان النبي إذا أتُي بهدية قال: ((اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحب خديجة))، وقالت عائشة: (ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة، لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها) أي: صديقاتها. ودخلت عليه امرأة فهش لها أي: انشرح صدره سرورًا لها، وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: ((إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)).
إن وجه القدوة فيما سلف ذكره هو في وفاء النبي وحبه لزوجته، حتى امتد ظلال ذلك الحب والوفاء وطيب العشرة إلى صديقات زوجته ومن له صلة بها، فعليكم بالإحسان وأداء حقوق الزوجات، وأن تحسنوا لأقاربهن وصديقاتهن وفاءً لحقوق الزوجية.
ولم يقتصر حسن العهد والوفاء منه لبعض معاشريه، بل امتد وفاؤه وحسن عشرته لكل من أحسن إليه أو إلى أصحابه أو أهله، كان ذلك المحسن من كان، فقد وفد عليه وفد للنجاشي، فقام النبي يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نكفيك، فقال: ((إنهم كانوا لأصحابي مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم)). وأحسن لأخته الشيماء، وأحسن إلى جميع الناس من قبيلة هوازن إكرامًا لأخته من الرضاعة.
ومن وفائه لابنته أنه كان يصلي بأمامة ابنة ابنته، يحملها على عاتقه، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. وكان رسول الله جالسًا يومًا، فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله فأجلسه بين يديه.
فسبحان من زيّنه بوفاء العهد وحسن العشرة وكرم النفس وسماحة الخلق والتواضع مع علو منصبه ورفعة رتبته، وإن هذه الصفات والشمائل كلهن أعظم المثل والأخلاق التي طالما تمنينا أن تكون هي ديدن المسلمين في أخلاقهم ومعاملاتهم مع الآخرين، وأن يتجه الدعاة لدعوة الناس إليها، ويبتعدوا عن المواضيع التي لا تسمن ولا تغني من جوع الجهل وسوء الخلق.
إن النبي خُيَّر بين أن يكون نبيًا ملكًا أو نبيًا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًا عبدًا، فقال له إسرافيل عند ذلك: فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق الأرض عنه، وأول شافع.
ومن تواضعه أنه كره قيام أصحابه له عندما خرج عليهم، وقال: ((لا تقوموا كما تقوم الأعاجم؛ يعظم بعضهم بعضًا))؛ وقال : ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)).
وبلغ من تواضعه أن امرأة كان في عقلها شيء جاءته، فقالت: إن لي إليك حاجة، فقال في تواضع وهو خير خلق الله: ((اجلسي يا أم فلان، في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك؟)) قال أنس: فجلستْ، فجلس النبي حتى فرغت من حاجاتها.
لقد بلغ النبي في تواضعه أنه كان في بيته في مهنة أهله، في خدمة أهله، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله أي: يخرز حذاءه، ويخدم نفسه، ويقم البيت أي: يكنسه، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه أي: جمله، ويأكل مع الخادم، ويعجن معها، ويحمل بضاعته إلى السوق.
ومما ورد في تواضعه أنه حج على رحل رث وعليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم، فقال: ((اللهم اجعله حجًا لا رياء فيه ولا سمعة)). ومن تواضعه أنه لما فتحت عليه مكة ودخلها بجيوش المسلمين لم تأخذه نشوة النصر على الأعداء، بل طأطأ رأسه منحيًا حتى كاد يمس قادمة رحله تواضعًا لله تعالى.
إن النبي خير خلق الله وذلك بقوله هو: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر))، ونقول الآن: ومع هذه الحقيقة، لم يرضَ النبي من أصحابه أن يفضلوه على أحد من إخوانه الأنبياء، وذلك ليغرس في الأمة التواضع ونفي الكبر والعجب المبطلين لعمل العاملين. ففي صحيح مسلم أن رجلاً قال له: يا خير البرية، فأجابه بتواضع ونفى عن نفسه هذا اللقب بقوله: ((ذاك إبراهيم))، وقال لصحابته أيضًا في معرض التواضع وهضم النفس: ((لا تخيروني على موسى))، ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة، فقال له سيد المتواضعين وخير خلق الله أجمعين: ((هوّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)).
إن النبي في تواضعه مع جميع الناس يمتثل أمر مولاه سبحانه بقوله: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]، ويبين النبي في صحيح سنته أن هذا الخلق واجب عليه وعلى جميع الأمة بقوله: ((إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد ولا يبغي أحدٌ على أحد)). إن التواضع يذهب الفخر والخيلاء، ويذهب الظلم المعبر عنه في الحديث بالبغي، ((ولا يبغي أحد على أحد)).
ويقول : ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه)). إن هذا الحديث يخاطب الذين يحبون المال والعز والرفعة، فمن أراد زيادة ماله فعليه بالصدقة، ومن أراد العز والجاه فعليه بالعفو عمن أساء إليه، ومن أراد رفعة القدر والمكانة فعليه أن يكون ذليلاً لله متواضعًا لمولاه، يكن رفيع القدر عند الناس.
|