الحمد لله خالق كل شيء ومبدعه، له ما في السماوات وما في الأرض، يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحانه وتعالى عما يشركون، أحمده تعالى حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه المباركين، وعلى سائر عباد الله الصالحين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى قد اصطفى هذه الأمة الإسلامية على سائر الأمم، ونحلها وخصها بخصائص كثيرة وفضائل عديدة ومناقب عظيمة، فبعث فيها خاتم رسلِه، وأنزل إليها أعظم كتبه، ودلها على أحسن شرائعه، حتى غدت خير أمة أخرجت للناس.
ومما خص الله تعالى به هذه الأمة وميزها به هذا اليوم المجيد العظيم؛ يوم الجمعة الذي هو سيد الأيام، وخيرة الله منها، إذ خصه الله سبحانه بكثير من الحوادث الكونية والشعائر الدينية التي تميز بها عن سائر الأيام.
فمن خصائصه الكونية أنه خير يوم طلعت فيه الشمس، وأن الله تعالى قدر في هذا اليوم أهم حوادث الخلق وأبرز وقائع التاريخ الكبار؛ ففيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها))[1]، وفي رواية له: ((ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة))[2]، وعند أبي داود بسند لا بأس به قال : ((وما من دابة إلا وهي مُسِِيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقًا من الساعة، إلا الجن والإنس))[3].
وقد فرض الله تعالى على عباده تعظيم يوم الجمعة، فضلّ اليهود عليهم لعنة الله فعظموا يوم السبت، وضلّ النصارى لعنهم الله فعظموا يوم الأحد، وهدى الله أمة الإسلام إلى خير الأيام وسيدها يوم الجمعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمِ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ))[4]. فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، وخصنا بأشرف الأيام.
وأما خصائصُ يوم الجمعة الدينية الشرعية فكثيرة متنوعة، فقد خص الله هذا اليوم بآداب شرعية وشعائر دينية تعبدية واجبة ومستحبة، فيجب على المسلمين أن يحتفوا بهذه الخصائص، وأن يهتموا بها علمًا وعملاً.
فمن أبرز خصائص هذا اليوم الشرعية صلاة الجمعة، التي فرضها الله على كل مسلم بالغ ذكر حر، ودليل وجوبها أمر من الله تعالى بالسعي إليها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9].
وقد ورد التحذير الشديد عن النبي في حق من تهاون بها أو تركها، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله على أعواد المنبر يقول: ((لينتهين أقوام عن وَدْعِهم الجُمُعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين))[5]. فترك الجمعة سبب للختم على القلب، وهذا من أعظم العقوبات وأشدها، فإذا ختم عليه ضعفت بصيرته وعمي، وإذا عمي القلب أظلم وانتكس، وفاتته خيرات الدنيا والآخرة.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى صلاة الجمعة سببًا لتكفير السيئات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر))[6]، وعنه أيضًا: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا))[7]. ولما كانت هذه الصلاة بهذه المنزلة وهذه المكانة فقد خصت بآدابٍ وأحكام، منها ما هو سابق لها، ومنها ما هو في أثنائها. أما الآداب السابقة:
فمنها: سنية الاغتسال والتنظيف والتطيب قبلها، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) متفق عليه[8]. وقد أخرج الإمام أحمد بسند جيد عن أوس بن أوس الثقفي قال: قال رسول الله : ((مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَسَّلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ؛ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا)). ويتأكد الاغتسال في حق من به رائحة يحتاج إلى إزالتها، ويستحب تأخيره إلى ما قبل خروجه للصلاة، وأما استعمال الطيب فقد قال النبي : ((حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَتَسَوَّكُ، وَيَمَسُّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ لِأَهْلِهِ)) أخرجه أحمد[9].
ومن الآداب السابقة للصلاة يوم الجمعة لبس أحسن الثياب التي يقدر عليها، فعن عبد الله بن سلام أنه سمع النبي يقول على المنبر يوم الجمة: ((ما على أحدكم لو وجد أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)) أخرجه أبو داود وابن ماجه بسند جيد[10].
ومن الآداب أيضًا: التبكير في المجيء إلى صلاة الجمعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ)) متفق عليه[11].
ومن المؤسف والمحزن أنك تدخل المسجد قبل مجيء الإمام بوقت قليل، ولا ترى إلا عددًا يسيرًا من المصلين، حتى إذا قارب الإمام أن يفرغ من خطبته أو قلْ: فرغ منها اكتظت المساجد، وغصت بالمصلين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن الآداب المشروعة أثناء صلاة الجمعة: الإنصات والاستماع للخطبة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: "أنصت" والإمام يخطب فقد لغوت)) متفق عليه[12]. فالكلام أثناء الخطبة حرام لا يجوز، حتى ولو كان أمرًا بالمعروف أو نهيًا عن المنكر، إلا أن يكلّم الإمامَ نفسَه، فالواجب الإنصات وترك المشاغل عن الخطبة، فليست صلاة الجمعة ملتقى لتبادل الأخبار، ولا مكانًا لتداول الكلام، بل هي شعيرة من شعائر الدين، لإقامة ذكر الله تعالى.
ومن الآداب الدينية أثناء الخطبة: أن من جاء متأخرًا يجلس حيث انتهت الصفوف، ولا يجوز له تخطي رقاب الناس، فقد جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي يخطب فقال له: ((اجلس فقد آذيت)) رواه أبو داود بسند لا بأس به[13]. وهذا يدل على تحريم التخطي، إذ إن أذية المسلمين محرمة. ومن رغب في الخير وفي الصفوف الأولى فليبادر إلى الصلاة ولا يتأخر، فإن الفضائل والدرجات والمراتب لا تحصل بالكسل، بل هي كما قال الأول:
بعيد عن الكسلان أو ذي ملالة وأما من المشتاق فهو قريب
ومن الآداب الشرعية أيضًا: أن من دخل والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين خفيفتين، ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة والنبي يخطب فجلس، فقال رسول الله : ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطُب فليركع ركعتين، وليتجَوَّز فيهما))[14].
رزقنا الله وإياكم التأدب بآداب الشرع، والأخذ بأحكامه ظاهرًا وباطنًا.
|