وبعد: يقول تعالى في كتابه العزيز: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم [التوبة:104].
معشر المسلمين، التوبة كلمة عظيمة؛ لأنها تعني الرجوع إلى الله سبحانه، تعني إصلاح العلاقة بالخالق العظيم وإنهاء مرحلة الشرود عنه وعن تعاليمه، لهذا اهتم الإسلام بالتوبة وعظم شأنها وحث عليها الله سبحانه ورسوله ، بل إن التوبة اسم لإحدى السور الطويلة العظيمة في القرآن الكريم.
يدعو الله سبحانه إلى التوبة؛ لأنه سبحانه يريد بعباده الخير واليسر، ويدل عباده على طريق الجنة وطريق السعادة: وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس:25]، لهذا دعا الرحمن عباده إلى التوبة، دعاهم إلى التطهر من ذنوبهم وآثامهم والتوجه إلى رحاب الله الطاهرة، إلى ساحة فضله وعفوه، يقول سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. فهذه دعوة لجميع المؤمنين بدون استثناء أن يتوبوا إلى الله إن كانوا يريدون الفلاح والنجاح، كما دعا رسول الله إلى التوبة ورغب فيها فهو القائل: ((الندم توبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له)) أخرجه الطبراني من حديث أبي سعيد الأنصاري.
فالتوبة إذًا أمر كبير الأثر عظيم الأجر، ولكن من الذي يجب أن يتوب؟ هذا سؤال نخطئ كثيرا في الإجابة عنه، فمن الناس من يظن أن التوبة إنما تكون من العصاة فقط، أما غير العصاة فليسوا مطالبين بالتوبة، ومن الناس من هو على عكس ذلك، فهو يظن أن التوبة تقبل من الصالحين الطيبين الذين لم يسرفوا في الذنوب والمعاصي، أما من بالغ في المعاصي وأكثر من الذنوب فإنه لا توبة له، وهذان الفهمان خاطئان عباد الله، فلا ينبغي للمؤمن الصالح أن يعتقد أنه في غنى عن التوبة أو أن التوبة إنما هي للعصاة فقط، فالله سبحانه يخاطب المؤمنين الذين حققوا الإيمان ويطالبهم بالتوبة رغم إيمانهم، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَار [التحريم:8].
فهذا نداء وأمر بالتوبة من الله سبحانه للمؤمنين؛ ليبين لهم أنه مهما بلغ إيمانهم ومهما أطاعوا الله فإنهم لا يستغنون عن التوبة والرجوع إليه سبحانه، بل إن أكرم الخلق وأعرفهم بالله سبحانه وأخوفهم منه الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر رسول الله كان يتوب إلى الله، فهو القائل : ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله وأستغفره في كل يوم مائة مرة)) أخرجه أحمد، وأخرج أبو داود عن ابن عمر قال: إن كنا لنعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة: ((رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم))، فهذا هو النبي الهادي المعلم يعلمنا أنه يتوب إلى الله سبحانه، فكيف بالله عليكم ننسى التوبة؟! كيف بالله عليكم لا نستحي أن يتوب رسول الله ولا نتوب، وأن يستغفر حبيب الله ولا نستغفر؟! هل جنون بعد هذا الجنون؟! وهل غرور بعد هذا الغرور؟!
أما التوبة للعصاة والمسرفين على أنفسهم الذين أكثروا من الذنوب فإن بابها مفتوح أيضا، ومن وسوس إليه الشيطان أو ظن أن توبته لا تقبل فإن كتاب الله يرد عليه، يقول سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25]، فالله يقبل التوبة عن عباده، وكل الناس عباد الله سبحانه، فلا ينبغي لأحد من عباد الله أن يقنط من رحمة الله وعفوه مهما كان ذنبه، يقول سبحانه: قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، دعوة كريمة من رب كريم إلى كل عاص ومسرف على نفسه إن كان يريد الخلاص، وباب يشرعه رب الكون ليلجه كل من خاف عذاب الآخرة وخاف غضب الجبار، بل إن الله سبحانه يبدل سيئات العاصين حسنات إذا هم تابوا وأنابوا وتركوا ما كانوا فيه من المعاصي، يقول سبحانه في سورة الفرقان بعد ذكر أصحاب الكبائر وما سيلاقونه من عذاب يقول: إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:70]، يستثني الله سبحانه من عذابه من تاب من العصاة وعمل صالحا، ويعدهم بتبديل سيئاتهم حسنات، فهل أرحم من هذا الرب وأكرم؟! جل شأنه وعز سلطانه، فلا أحد تحجب عنه التوبة أو يغلق في وجهه بابها حتى الكافر، فكيف بالمسلم العاصي؟! يقول سبحانه: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:38].
ولكن هل للتوبة وقت محدد لا تقبل إلا فيه، أم أنها مقبولة في كل الأوقات؟ فلنعلم ـ عباد الله ـ أن التوبة مقبولة من الإنسان في كل الأوقات إلا في وقتين: عند نهاية عمر الإنسان وظهور علامات الموت وعند نهاية عمر الدنيا وظهور علامات القيامة، فالتوبة لا تقبل عند نهاية عمر الإنسان وعند الغرغرة؛ لأنه أيقن بالهلاك، فسبب توبته ليس إيمانه، بل إن سببها يأسه من الدنيا، فإذا أيس الإنسان من الدنيا ومن الرجوع إليها أظهر التوبة وأمر بتوزيع الأموال وهذا أمر لا يقبل، لا بد للإنسان أن يتوب وهو معافى عنده أمل في الدنيا حتى تكون توبته صادقة يقبلها الله سبحانه، يقول سبحانه: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:17، 18].
فالله يبين في هذه الآيات الوقت الذي تقبل فيه التوبة، ويبين جل وعلا أنه يعلم ما يخفيه الإنسان وما يضمره في نفسه، لهذا فهو سبحانه الذي يحدد ممن يقبل التوبة وعمن يحجبها، أخرج الإمام أحمد عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر))، فهذا حِلم من الله وفضل أن يمهل الإنسان إلى هذا الوقت، ولكن هل يؤجل مسلم عاقل التوبة إلى الغرغرة؟ وهل من عصى الله ونسيه طيلة حياته سيذكره عند الغرغرة؟! لا بد لمن أراد الخاتمة الحسنة أن يعمل لها أثناء حياته حتى يوفقه الله سبحانه إليها.
أما الوقت الآخر الذي لا تقبل فيه التوبة هو ـ كما قلنا ـ عند نهاية الدنيا، فعند ظهور علامات القيامة الكبرى يقفل باب التوبة؛ لأنها عند ذلك لا تكون توبة إيمانية صادقة، بل توبة اضطرارية، سببها اليأس من الدنيا، والله سبحانه لا يُخدع، فهو رحيم كريم يقبل توبة عبده ما دام صادقا، ولكنه لا يقبل أن يخدعه العبد، فهو سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لهذا يقول سبحانه في كتابه العزيز: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام:158]، ويقول رسول الله فيما أخرجه الطبراني في الكبير عن صفوان بن عسال: ((إن للتوبة بابا عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها))، إذًا فهذا وقت تمنع فيه التوبة، وهو وقت يعلم فيه كل إنسان بقرب انتهاء الدنيا لظهور العلامات الكبرى، لهذا فإن باب التوبة عندها يقفل.
ولا بد لنا ـ عباد الله ـ أن نحذر من الأمور المضرة بالتوبة، ومن أخطر هذه الأمور التسويف والتأجيل في التوبة، وهذا من الأمور العجيبة التي يفعلها الإنسان، فهو إذا أراد أن يعصي أو يذنب أذنب مباشرة، أما إذا أراد أن يتوب فإنه يسوف ويؤجل، وهو لا يشعر أن تأجيله وإصراره على الذنب يسبب في تراكم الران على قلبه حتى يختم له الله بخاتمة سيئة، يقول رسول الله : ((إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإذا تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه، فإن زاد زادت، فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14])) أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة.
فلا ينبغي لمسلم أن يؤجل في التوبة لأن الأعمار بيد الله، ولأن القلوب أيضا بيد الله، ولا ينبغي أيضا أن يغتر العبد بحلم الله عليه أو بنعم الله عليه إن كان غير مطيع لله؛ لأنها ليست دليل رضا الله عليه، بل قد تكون دليل سوء مآله وعاقبته والعياذ بالله، يقول : ((إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب من الدنيا على معاصيه فإنما هو منه استدراج)) أخرجه أحمد عن عقبة بن عامر.
فلنحذر ـ عباد الله ـ أن نكون من المستدرجين ونحن لا نشعر، ولنحذر أن نكون من الذين يأكلون نعم الله ويرفلون في فضله ونعيمه ثم لا يعبدونه ولا يشكرونه ولا يتوبون إليه، وليعلم كل مسلم محسن أو مسيء بأن الله سبحانه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، لهذا فإن بابه سبحانه مفتوح ما دام في عمر العبد بقية، ويده سبحانه مبسوطة لمن أراد التوبة والرجوع إليه، أخرج مسلم عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله قال: ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها))، فهل نتوب ـ عباد الله ـ إلى مولانا أم نركب رؤوسنا ونضيع هذه الفرصة وهذا الكرم من الرب الكريم؟! أسأل الله أن يتوب علينا وأن يهدينا سواء السبيل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
|