إن صفاءَ القلوب وسلامة الصدور ونقاء السريرة صفات محمودة، دعا الدين الحنيف إليها، ومدح المتصفين بها، وأثنى عليهم، وبيَّن فضلهم وعلُو درجاتهم ورفعة منازلهم، إذ هي أخلاق المسلم وخلال المؤمن التي من شأنها تقوية الصلة وتوثيقها بين أفراد المجتمع، وتكوين رابطة مثلى، تنشر الرحمة والعطف والود بين كافة فئات المجتمع.
فالقلب حين يكون نقيًا من الشحناء، سليمًا من البغضاء، خاليًا من الحقد والضغينة، فهو القلب العطوف الذي أُتْرِع بالرحمة، وملئ بالحنان والشفقة، إنه القلب الذي ينبع بمحبة الخير وأهله، وصنع المعروف وبذله، يتتبع مواطن البر والإحسان، ويتفقد المحتاجين في مجتمع الإيمان.
القلب النقي من الحقد هو القريب من الناس، المحبوب عندهم، المرغوب في القرب منه والتعامل معه؛ لأن ما في داخله ظهر على وجه صاحبه، واتضح في سلوكه وتعامله، فهو بعيد عن التقلب والتلون، ليس من عادته المكر والخداع، ولا المراوغة والتصنُّع.
قال تعالى: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الحشر:9] أي: لا يحملون في قلوبهم حقدًا ولا حسدًا ولا ضغينة على إخوانهم ولا عداوة لهم.
إن الحقد يولّد النفرة والاستثقال للآخرين وبُغْضَهم، والبعد عن الأخيار والطيبين وكراهتهم، وإظهارَ المساوئ وإخفاء المحاسن. والحطُّ من مكانة الناس وازدراؤهم أعمالٌ مذمومة، ومن سلِم من ذلك غفر الله تعالى له، روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ثلاث من لم يَكُنَّ فيه غفر الله له ما سواه لمن شاء: من مات لا يشرك بالله شيئًا، ولم يكن ساحرًا يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه)) رواه البخاري في الأدب المفرد.
وحين يُصفِّي المؤمن سريرته من الأوغار، وينقيها من الأحقاد، فإنه ينال الثواب العظيم والأجر الجزيل الذي يطمحُ إليه كلُّ مسلم، ألا وهو الفوز بالجنة والتنعم بخيراتِها، يوضح ذلك ما رواه أنس بن مالك قال: كنا جلوسًا مع رسول الله فقال: ((يطلع الآن عليكم رجلٌ من أهل الجنة))، فطلع رجل من الأنصار تَنْطُفُ لحيتُه من وضوئه، قد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال النبي مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول، فلما قام النبي تبعه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقال: إني اختلفت مع أبي، فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاث ليال، فإن رأيت أن تؤويني إليك هذه المرة، فقال الرجل: نعم، فبات معه ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وَكَبَّرَ حتى صلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما انقضت الليالي الثلاث، وكدتُ أن أحتقر عمله، قلت له: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ ولا تهاجُر، ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة))، فطلعت أنت المرات الثلاث، أردت أن آوي إليك فأنظر ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي على أحدٍ من المسلمين غِشًا، ولا أحسُدُ أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغَت بك، وهي التي لا نطيق. رواه أحمد بإسناد على شرط الشيخين.
فتبين من هذا أن السلامة من الغش والخديعة وتطهير القلب من الحقد والضغينة ونظافة الصدر من السخيمة كل ذلك يدفع بالمسلم إلى رفعة الدرجات، وفوزه برضا رب الأرض والسموات، فيثيبه على ذلك أعظم الثواب، ويمنُّ عليه بالجنة أنفس مرغوب وأحسن مآب.
إن من أقبح الصفات التي تدفع بالمرء إلى الحقد ما يكون في قلبه من الحسد، وتمني زوال النعمة عن أخيه، والفرح بنزول البلاء به، والسرور عند إصابته بمصيبة، وقد قال : ((إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)) رواه أبو داود، والقلب لا يتسع إلا للإيمان، ومن لوازمه محبة الإنسان الخير والنجاح والفوز والفلاح لإخوانه، قال : ((لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد)) رواه ابن حبان.
إن الحقد من الصفات الذميمة التي تمزق عرى الصداقة، وتفرق القلوب المتآلفة والنفوس المتحابة؛ لأن القلوب إذا تآلفت ارتبطت برباط المحبة، وراعت حقوق الأخوة الإسلامية التي أكد عليها القرآن: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وحذر من المسببات الجالبة لتمزيقها وذهابها، يقول : ((إياكم والظنّ، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم.
ما أعظم هذه التوجيهات النبوية والإرشادات المحمدية التي يدعو فيها الحبيب المصطفى إلى البعد عن كل صفة منها، فهو يؤكد على صرف الهمة إلى الاعتناء بأحوال القلب وصفاته، بتصحيح مقاصده وأهدافه، وتطهيره عن الصفات الذميمة وغرس الخلال الحميدة في سويدائه.
إنك لو أمعنت النظر في هذا الحديث، وما ورد فيه من الصفات التي تأبى الأُخُوَّةُ الإيمانية أن يتصف بِها المؤمن أو يرضاها لأخيه لوجدتَ أن كثيرًا من القلوب قد أُشبعت بها، وارتوت الأفئدة بآثارها السيئة، فنتج عنها الحقد والضغينة، ولعل السبب في ذلك هو التنافس المثير في جمع المادة واللهث وراء بريقها الزائف والجري خلف حطام الدنيا، ولم يسلم من ذلك إلا من طهَّر الله قلبه، فانصرف بكليته إلى عبادة ربه، وتعلق فؤاده بخالقه، وصدق في توجهه إلى سيده، فلم تُنسه المغريات ما هو مترقب له وقادم عليه ومنتظر وقوعه، لا يخاف الضيق في دنياه، ولا الضنك في هذه الحياة، وهو متوكل حق التوكل على الرازق الوهاب، ومخلص في عبادته لرب الأرباب.
والنـاس في هذه الدنيـا على رُتبٍ هذا يُحطُّ وذا يعلو فيرتفـع
فأخلِصِ الشكرَ فيما قد حبيـتَ به وآثرِ الصبرَ كلٌّ سوف ينقطع
|