لقد أوجد الله تعالى الإنسان في هذه الحياة، وخلقه لحكمةٍ جليلة، وغاية سامية ونبيلة، بينها الله تعالى في كتابه الكريم، فقال جل شأنه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ولإقامة الحجة على خلقه أنزل الخالقُ جل في علاه الكتب وأرسل الرسل، ليبلغوا للناس رسالته، قال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:165]، فبين الرسلُ للناس المنهج الواضح الذي يجب عليهم سلوكه والطريق الصحيح الذي ينبغي الالتزامُ به، حتى يفوزوا بموعود الله تعالى لهم.
إلا أن الوصول إلى ذلك الهدف ـ وهو الفوز بالجنة والرضا من الله تعالى ـ لا يمكن لأيّ واحدٍ أن يصل إليه بكل سهولة، بل لا بد من جدٍّ واجتهاد وعملٍ ومثابرة وصبر دؤوب على أداء الطاعةِ التي كُلِّفَ بها والتزامٍ تامٍّ بجميعِ الأوامر، واجتنابٍ دائمٍ لجميعِ المحرمات التي حذر الشارع من الوقوع فيها والعمل على كبح جماحِ النفس عن السقوط في مهاوي الرّذيلة والفساد.
ونفس المسلم وإن كانت حريصة على الالتزام بكل ما ذكر إلا أن هناك من أخذ على نفسه العهد أن يوقع الأمة جميعها في المحظورات، ويُحسِّن لها المعاصي والمنكرات، ويصدها عن فعل الخيرات، ويزين لها القبيح، ويريها الحق باطلاً والباطل حقًا، ألا وهو إبليس اللعين، الذي التزم أن يغوي هذه الأمة جميعها، قال تعالى حكاية عنه: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16، 17]، وقال جل شأنه: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39].
من هنا تبدأ النفس الإنسانية وتفكر في الخروج عن جادة الصواب التي رسمها الشارع جل وعلا، فتتولد فيها النزعةُ إلى الشر والفساد، فتشرع في الانحراف والزيغ، ويظهر فيها الميلُ إلى العنف وإذكاء نار الفتنة وحب التسلطِ والقهر، فإذا اتصفت بهذه الصفات انحرفت عن الطريق المستقيم، وخرجت عن الوظيفة الأساسية التي خُلِقت من أجلها، فتتفشى في المجتمع ظاهرة لم تكن فيه، وهي زرع القلق والاضطراب وإظهار عدم الاستقرار بين أفراده، فمتى وقعت السرقة، وانتشر القتل، وفشت الفاحشةُ بجميعِ أنواعها، وارتكبت المحرمات كبيرها وصغيرها أحدث ذلك كلُّه نوعًا من الخلل في المجتمع وهلعًا وفزعًا بين أفراده، فيقوم الخوف مقام الأمن، والفوضى بدل الهدوء والاستقرار، والقلق مكان الطمأنينة.
كذلك فإن وجود المغريات بشتى صورها، وتوفرها أمام الشخص، وعدمَ وجود رادعٍ يمنع من الوقوع فيها، كل ذلك يسهل على الفرد الذي ضعف الوازعُ الديني في نفسِه أن يقع في الجريمة، ويشبع رغبته، ويحقق مقصده السيئ الذي عقد العزم على الوصول إليه.
إلا أن الشريعة الإسلامية لم تغفل عن هذا كله، بل نبهت أفرادها وحذرتهم حتى من مجرد التفكير بمقارفة المحرمات، وأوضحت أن إرادة ارتكاب المحرم فقط توجب العقاب في بعض الحالات، قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لو أن رجلاً همَّ بخطيئةٍ لم تكتب عليه ما لم يعملها، ولو أن رجلاً همَّ بقتلِ رجلٍ بمكة وهو بعدن أو ببلدٍ آخر أذاقه الله من عذاب أليم).
لذلك كله كان لزامًا على العلماء وأصحاب الفكر والرأي وحملة القلم تحذير الناس من الوقوع في جميع المحرمات، وتنفيرهم من الوقوع في المخالفات، وبيان النتائج السلبيةِ التي تعقب ارتكاب الجرائمِ بشتى صورها، كبيرة كانت أو صغيرة.
وإذا لم ينجح هذا الأسلوب، ولم يفد هذا المسلكُ مع بعض الخارجين عن نظام هذا الدين والراغبين في الانخراط في قائمة المجرمين، ولم يردعهُمُ النصح والتوجيهُ من الكفِّ عن بث الرعب والفزع بين الناس، فإن الدين الإسلامي أوجد سلطةً أناط بِها القيام بمهمة ردع المجرمين والقضاء عليهم واستئصالهم من هذا المجتمعِ الطاهر النقي، وهذه السلطة هي الشرطة التي أُوجدت لحفظ الأمن في المجتمع ورعاية أفراده، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرجت مع النبي يوم أحد، فلما رآني استصغرني وردَّني، وخلفني في حرس المدينة في نفر منهم أوس بن ثابت وأوس بن عرابة ورافع بن خديج. وقد ورد أيضًا ما يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مع رسول الله بمنزلهِ الشرطة من الوالي، حيث كانوا ينفذون أوامره، ويقومون بالمهام التي كان يكلفهم بِها.
من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله : أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته).
ولعل نظام العسس الذي كان موجودًا في عهد النبي وزمن خلفائهِ الراشدين يعتبر النواة الأولى لنظام الشرطة الذي بدأ يظهر بعد ذلك بصورةٍ أشمل، وبتخصصات متعددة وأغراض مختلفة.
لقد أنيطت برجال الشرطة بعد ظهورهم بشكل أوسع في الأزمنةِ اللاحقة مهمات كبيرة ومسؤوليات جسيمة، حيث ظهر لأفراد المجتمع الدور البارز الذي يقوم به أولئك في حفظ الأمن والنظام، فظهرت هيبة رجال الشرطة في أعين الناس، وذلك لجِدهم في حسمِ الخلافاتِ والنزاعات وغلقِ أبواب الشر.
ومن خلال نظرة عامةٍ إلى أهم الأعمال المنوطة برجال الشرطة في المحافظة على أمن المجتمع نجد أن ذلك يتلخص في أمور منها:
أولاً: تنفيذ الأوامر التي يصدرها ولي الأمر بمختلف أنواعها، من تفقد أحوال الناس وإقامة الحدودِ الصادرة بحق المجرمين، كجلد شاربِ الخمر وقطع يد السارق وتنفيذ القصاص وغير ذلك.
ثانيًا: مداهمةُ المجرمين في الأماكن التي يتوقع وجودهم فيها، من خلال قيام رجال الشرطة بالمراقبةِ الدائمةِ والمستمرةِ للمشبوهين أينما ذهبوا، للتحقق من أهدافهم المشبوهة وضبطهم وهم متلبسون بشبهِهِم.
ثالثًا: السهر على استتباب الأمن، والعمل على راحة الجميع، من خلال القيام بالدوريات المتتابعة على مدار اليومِ والليلة في الطرق العامة، وفي داخل الأحياءِ والمجمعاتِ السكنية.
رابعًا: العمل على تعويد الناس وإلزامهم بطاعة ولي الأمر، من خلال توجيههم إلى الالتزامِ بالنظام والمحافظة عليه وعدم الخروج عنه، حتى لا تعم الفوضى، وليبقى المجتمع آمنًا.
خامسًا: المحافظة على أموال الناس وممتلكاتِهم الخاصةِ والعامة، من خلال الحراسةِ التي يقوم بِها رجال الأمن في الأسواق والمحلات التجارية والمرافق العامة.
سادسًا: التصدي لأهل البدع والأهواء ممن يحدثون ظواهر جديدةً داخل المجتمع، تخالف ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله .
وبالجملة فإن مهام رجال الشرطة كثيرة، وهي في جملتها تنحصر بقيامهم بكل عمل يحول دون وقوع الجريمة في المجتمع، والمحافظة على أمنهِ واستقراره، وعدم تسرب الفوضى والفسادِ بين أفراده، حتى يهنأ الجميع بحياةٍ آمنةِ سعيدة.
إن أفراد المجتمع بأسره يجب على كل واحد منهم أن يكون شرطيًا أمينًا داخل هذا الكيان الكبير الشامخ، وذلك بتعاونه مع رجال الشرطة في كل ما من شأنه إنجاح مهمتهم ومساعدتهم في الوصول إلى تحقيق النجاح في وظيفتهم التي أنيطت بهم.
وأخيرًا، فإن رجل الأمن مسؤول مسؤولية عظيمةً أمام الله تعالى بقيامه بعمله الذي كُلف به خير قيام، وبطاعته لرؤسائه وتنفيذ أوامرهم، كما أن عليه أن يلزم الصدقَ في تعامله مع الناس، وأن يتجنب الظلمَ بشتى طرقهِ، وأن يتحرى الدقة والحرص عند قيامه بتنفيذ جميع مهامه، وأن يتذكر دائمًا عين الرقيب الذي لا ينام.
|