أمَّا بعد: يقول الله تعالى في كتابه: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
أيُّها المسلمون، من قال: إنَّ عهد الاستعمار قد ولىَّ؟! ومن قال: إنَّ اليهود والنصارى يقبلون بحوار الحضارات؟! ومن قال: إنَّ العقارب والأفاعي والحيات قد تنقلب يومًا إلى ضفادع وحمامات، فلا تلدغ أحدا؟!!
إنَّ هذا لهو العقم في الفكر والبلادة في الذهن، بل والتكذيب لكتاب الله تعالى القائلِ سبحانه: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا، والقائل جلَّ جلاله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
إنَّ العقارب والحيات خلقت لتلدغ، فلن تتخلَّى عن طبيعتها، فكذلك أمَّة اليهود وأمَّة الروم من النصارى، ولله درُّ القائل:
إنَّ الروم إذا لم تُغْزَ غزت لأنَّ ذلك طبعُها وخلقُها
ألم يقل النبيُّ : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))؟!
فوالله، ما زلنا لقمة سائغة لكلِّ طامع فينا ما دمنا غثاء كغثاء السيل، لا ننهض بأنفسنا، وما دمنا لا نغيِّر ما بنا من فساد وابتعاد عن دين الله تعالى.
والعدوان على العراق اليوم يندرج تحت هذا الذي أخبر به نبينا ، والأكلة هم أمم الروم دائمًا. وحتَّى من لم يشارك اليوم في طبخ الكعكة فإنَّه يطمع في حصَّته منها بعد الحرب.
نعم إنَّ الإنكليز هم كما وصفهم الشيخ محمَّد البشير الإبراهيمي رحمه الله: هم أول الشر وآخره ووسطه، وإنَّهم كالشيطان، منهم يبتدئ الشر وإليهم ينتهي، وإنَّهم ليزيدون على الشيطان بأنَّ همزاتهم صور محسَّمة تؤلم وتؤذي وتقتل، وجنادل مسمومة تهشم وتحطِّم وتخرِّب، لا طائف يمس ثم يخنس، ووسوسة تلابس ثمَّ تفارق، ويزيدون على الشيطان بأنَّهم لا يطردون بالاستعاذة وتذكُّر القلب، وإنَّما يطردون بما يطرد به اللصُّ الوقح من الصفع والدفع والحجار والمدر، ويدفعون بالثبات المتين للصدمة، وبالإرادة المصرَّة على المقاطعة في الأعمال، والإجماع المعقود على كلمة واحدة ككلمة الإيمان: إنَّ الإنكليز لكم عدوّ فاتخذوه عدوًّا. يردِّدها كلُّ مسلم بلسانه، ويجعلها عقيدة جنانه.
قد علمتم أنَّ الإنكليز هو الذي وعد صهيون فقوَّى أمله، وانتدب نفسه على فلسطين فكان الخصم والحكم في القضية، وأنَّه ما انتدب إلاَّ ليحقِّق وعده.
وعلمتم أنَّ بريطانيا هي التي جرَّت ضرَّتها البلهاء أمريكا إلى محادَّتكم وجرَّأتها على احتقاركم.
هذا ما قاله الشيخ محمَّد البشير بالأمس منذ أكثر من نصف قرن، فكيف لو رأى ما يجري اليوم في فلسطين والعراق؟! لقال: إنَّ الإنكليز والأمريكان هما في الشرِّ لدتان، وشريكا عنان.
فالواجب على المسلمين أن يفهموا هذا، وأن يعلموا أنَّ من كان عدوًّا لهم فأقلُّ درجات الإيمان أن يكونوا أعداء له، وأنَّ موالاته بأيِّ نوع من أنواع الولاية هي خروج عن أحكام الإسلام، لأنَّ معنى الموالاة له أن تنصره على نفسك ودينك وإخوانك.
أيُّها المسلمون، في مثل هذه الظروف يسعى المنافقون والمرجفون إلى إضعاف حال المسلمين، فيبثون الأخبار الكاذبة والتحليلات المبنية عليها هنا وهناك، ولهم سماعون مطيعون لهم في بلاد المسلمين.
فترى كثيرًا منهم يلقون باللائمة على المتسبِّب في هذا العدوان، فبعضهم يردُّ الأمر إلى طغيان هذا وجبروته ودكتاتوريَّته، وآخرون يعكسون القضيَّة ويردُّون الأمر إلى الذين أثاروه على أنفسهم واستجلبوا عساكر اليهود والنصارى إلى أراضيهم، متَّبعين في ذلك تحليلات اليهود والنصارى التي تبثُّها الإذاعات ومحطَّات البثِّ وسائر وسائط الإعلام من جرائد وصحف وغيرها، فيتتبَّع المسلم ذلك سائر يومه، ولا يتفرّغ لعبادة ربِّه، ولا للدعاء في كلِّ حين لإخوانه. فليس الوقتُ وقتَ تلاوم وتشاؤم، وإنَّما الوقت وقتُ تلاحم وتواؤم، وإظهارٍ لموالاة المسلمين ونصرتهم، ومعاداة العتاة المعتدين من الكافرين وخذلانهم.
ومن أخطر ما يسعى به أهل النفاق في هذه الظروف صرف الأمَّة عن علمائها، واستصدار الفتاوى الشيطانية من أهل الجهل والتهوّر، ليصفوا العلماء بالجبن والسكوت.
فالواجبُ على عامّة المسلمين رعايةُ حقِّ العلمَاء ومعرفةُ حقوقهم، وسؤالهُم عندَ وقوع الإشكال، فاهتداءُ المرءِ موكولٌ باعتصَامه بالوحيَين، واعتصامُه بهما موكولٌ باقتدائه بأهلِ العلمِ بهما، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
فالواجب رجوعُ الناسِ إلى علمائِهم الربانيّين المعروفين بالاعتقادِ الصحيح والمسلَك القويم، والواجبُ على الجميع ـ خاصّةً شباب المسلمين ـ ملازمةُ العلماءِ أهلِ النّصح والدراية، والأخذ عنهم، وتحرّي أقوالهم، والوقوف عندَ آرائهم، فالله جل وعلا يقول: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
قال بعض المفسّرين: "هذا تأديبٌ من الله لعبادِه عن فعلِهم هذا غيرِ اللائق، وأنَّه ينبَغي لهم إذا جاءَهم أمرٌ من الأمور المهمّة والمصَالح العامّة ما يتعلّق بالأمنِ وسُرور المؤمِن أو بالخوف الذي فيه مصيبةٌ عليهم أن يتثبَّتوا، ولا يتعجَّلوا بإشاعة ذلك [الخبر]، بل يردّونَه إلى الرّسولِ وإلى أولي الأمرِ منهم أهلِ الرأيِ والعِلم والنّصح والعقلِ والدراية، يعرفون الأمورَ والمصالح وضدّها، فإذا رَأوا في إذاعتِه مصلحة ونشاطًا للمؤمنين وسرورًا وتحرُّزًا من أعدائِهم فعَلوا ذلك، وإن رَأوا أنّه ليسَ فيه مصلحةٌ أو فيه مصلحة ولكن مضرَّتُه تزيدُ على مصلحتِه لم يذيعوه".
وينبغي على المسلم في مثل هذه الظروف أمور:
أحدها: أن يبادر إلى التوبة إلى الله عزَّ وجل، لأنَّ عامَّة ما يصيب المسلمين من بلاء ومحن وفتن فبما كسبت أيدينا، ولا يشغل وقته في تتبُّع الأحداث من مختلف الجرائد والمحطَّات السمعيَّة والبصريَّة، عبر شبكات الأنترنت أو المقعَّرات الهوائية، فإنَّ كثرة الاشتغال بذلك قد توجب الجزع والنوح على المصائب، وقد تدعو إلى اليأس والاستسلام، وإلى خلاف الواجب من الصبر والثبات والأخذ بأسباب النصر.
وأنت ـ يا أخا الإسلام ـ ترى كما أرى ما الناس فيه من فُرُط الاهتمام بما يجري وما جرى في العراق.
وأمَّا نحن فما أحوجنا إلى أن نعدَّ أنفسنا بأن نعبِّدها لله وحده، وأن نحقِّق التوحيد تحقيقًا ينتفي معه أن تكون نفوسنا ذليلة لغير الله خائفة من غير الله متضرِّعة إلى غير الله مستغيثة بغير الله تعالى، توحيدًا خالصًا من كلِّ شائبة من شوائب الشرك، كبيره وصغيره. وهذا إنَّما شرطه وطريقه العلم، قال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ [محمد:19].
مسكين من عاش عمرَه حتى مات وهو لا يعرف ربَّه بأسمائه وصفاته، ولم يسلم له وجهه حنيفًا مخلصًا، ولم يتقرَّب إليه ولو بسجدة واحدة له في عبادته، لا يعبد معه أحدا.
لا ينصر الله قومًا يعبدون القبور والمشاهد والأضرحة والمقامات والمزارات والأولياء، ويتقربون بالتمسح بالقبور والاستغاثة بالمقبور، وبدعاء الحسين والاستنجاد به وبغيره، فمهما أطلقوا عليها من اسم فإنَّ معناها واحد، واسمها الحقيقي هو الآلهة والأصنام. لا ينصر الله من ترك سنَّة نبيِّه وتشبَّه بالمغضوب عليهم من اليهود والضالين من النصارى. فإذا تنازع يهوديٌّ بالنسب مع يهوديٍّ بالشبه في الوصف، فالغلبة للأقوى منهما.
ولسنا نثبِّط الهمم والعزائـم، ولا نأمر بالجزع واليأس، بل نؤمن بأنَّ النصر لن يكون إلاَّ لأهل الإسلام، مهما كان ذلك متأخِّرًا في آخر الأزمان.
ولا نستصرخ أحدًا سوى الله تعالى، لا دولا ولا الرأي الدولي العام، فلا نقيم المظاهرات الصاخبة والمسيرات العارمة، التي هي امتصاص للغضب أكثر منها شحذًا للهمم نحو ما يحبُّه الله ويرضاه. فهؤلاء إنَّما يعملون على إزالة آثار العدوان في النفوس، والواجب هو العمل على إزالة أسباب العدوان من النفوس، أسباب كثيرة يجمعها: ما كسبت أيدينا من الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله.
فعلينا بالعودة الحميدة إلى الله وإلى رسوله، إلى كتاب الله وسنَّة نبيِّه، هذا هو السبيل، وهذا هو المخرج من جميع ما يصيبنا من مذلَّة وإذلال ومن مصائب ومساوئ.
|