أيُّها الناس، لمَّا قضى رسول الله خطبته ودخل بيته تزايد به الألم واشتدَّ به الوجع، حتَّى قالت عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشدَّ منه على رسول الله ، وكان يقول: ((إنِّي لأوعك كما يوعك الرجلان منكم)).
فلمَّا كان يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأوَّل وهو آخر يوم من أيامه ، بينما المسلمون في صلاة الفجر وأبو بكر يصلِّي لهم قال أنس بن مالك: لم يفاجئهم إلاَّ رسول الله قد كشف عن ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأنَّ وجهه ورقة مصحف، ثمَّ تبسَّم يضحك، قال أنس: فبهتنا ونحن في صلاتنا، وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله ، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصفَّ، وظنَّ أنَّ رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة، فأشار إليهم رسول الله بيده أن أتمُّوا صلاتكم، ثمَّ دخل الحجرة وأرخى الستر.
قال أنس: فلمَّا وضح لنا وجه رسول الله ما نظرنا منظرًا قطُّ كان أعجب إلينا من وجه رسول الله حين نظرنا إليه.
كانت تلك آخر نظرة نظروها إلى رسول الله وهو يتبسّم حتَّى كادوا يفتتنوا وهم في صلاتهم. مشهدٌ ما أروعه، كانت تلك نظرة الوداع التي أرخى بعدها الستر.
فلمَّا كان الضحى من ذلك اليوم ابتدأته سكرات الموت، وكان قد استدعى ابنته فاطمة فأتته، فلمَّا رأته في تلك الحال قالت: واكرب أباه! فقال: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم))، وكان قد سارَّها بشيء فبكت، ثمَّ دعاها فسارَّها بشيء فضحكت، ولمَّا سئلت بعد وفاته عن ذلك قالت: سارَّني النبيُّ أنَّه يموت في وجعه الذي توفِّي فيه فبكيت، ثمَّ سارَّني أنِّي أوَّل أهله يتبعه فضحكت، وكانت عامَّة وصيَّته حين حضرته الوفاة: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)). وكان عنده قدحٌ من ماء فكان يدخل فيه يديه ثمَّ يمسح وجهه بالماء ويقول: ((لا إله إلاَّ الله، إنَّ للموت سكرات))، ولم يمت حتَّى خيِّر مرَّة أخرى بين الدنيا والآخرة، فجعل يقول وهو شاخصٌ نحو السماء: ((اللهمَّ في الرفيق الأعلى))، حتَّى قبض.
قالت عائشة: قبض رسول الله ورأسه بين سحري ونحري، قالت: فلمَّا خرجت نفسه لم أجد ريحًا قطّ أطيب منها.
وقد توفِّي رسول الله شهيدًا، ذلك أنَّه أكل طعامًا في غزوة خيبر وضع له فيه سُمٌّ، فكان يقول: ((ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السُمّ)).
ولمَّا توفِّي رسول اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته، وكان من هؤلاء عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه.
وكان أبو بكر حين توفِّي رسول الله بالسُّنح، فجاء عمر والمغيرة فاستأذَنَا فأذنت لهما عائشة وجذبت إليها الحجاب، فنظر عمر إليه فقال: واغشياه! ما أشدَّ غشي رسول الله ! فلمَّا دنا من الباب قال المغيرة: يا عمر، مات رسول الله ، فقال عمر: كذبت، لا يموت رسول الله حتَّى يفني الله المنافقين، وكان المنافقون قد فرحوا بموت رسول الله وأظهروا الاستبشارَ ورفعوا رؤوسهم، فخرج عمر إلى الناس ليكسر ظهور المنافقين، فجعل يقول: والله، ما مات رسول الله ، ولا يموت حتَّى يقتل الله المنافقين، وجعل يتوعَّدهم بالقتل والقطع ويحلف لهم.
ثمَّ أقبل أبو بكر على فرس له من مسكنه بالسّنح حتَّى نزل فدخل المسجد، فمرَّ بعمر وهو يتوعَّد ويحلف للناس أنَّ رسول الله لم يمت، فلم يكلِّمه أبو بكر، ودخل على عائشة فكشف عن رسول الله ثمَّ أكبَّ عليه يقبِّله ويبكي ويقول: وانبيَّاه، واصفيَّاه، واخليلاه، ثمَّ قال: بأبي أنت وأمِّي، طبت حيًّا وميّتا، والذي نفسي بيده لا يجمع الله عليك موتتين، فأمَّا الموتة التي كتبت عليك فقد متَّها.
ثمَّ خرج وعمر يكلِّم الناس ويحلف فقال له أبو بكر: أيُّها الحالف على رسلك، اجلس يا عمر، فأقبل الناس إلى أبي بكر وتركوا عمر، فقال: أما بعد: من كان منكم يعبد محمَّدا فإنَّ محمَّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت، وقرأ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فنشج الناس يبكون وكأنَّهم لم يعلموا أنَّ الله أنزل هذه الآية حتَّى تلاها أبو بكر، فتلقَّاها منه الناس كلُّهم.
قال عمر: فوالله، ما هو إلاَّ أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت أنَّه الحقُّ، فعقرت حتَّى ما تقلُّني رجلاي، وحتَّى هويت إلى الأرض وعرفت أنَّ رسول الله قد مات.
وقد جعل الله في خطبة كلٍّ من عمر وأبي بكر خيرًا ومصلحةً للمسلمين، كما نبيِّنه بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
|